ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( 224 )
كلام الله سبحانه وتعالى من قوله:[ و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن . . .221]( البقرة ) في الأسرة وبيان أسس التلاؤم بين ركنيها ودعامتها ، وهي الدين والأخلاق ، لا المال ولا الجاه ولا الجمال ، فإن تلك أمور قد تكون عند التفاضل بعد تحقق الأصل وهو التدين والخلق ، فلا ينظر إلى هذه الأمور إلا بعد تأكد هذين الأصلين .
و قد بين سبحانه بعد ذلك شيئا من العشرة الزوجية يتصل بالعلاقة الفطرية بين الزوجين ، وفي هذه الآيات ذكر الأمر الذي يتصل بظلم الرجل لزوجه فيما يتصل بتلك العلاقة ، وذلك بأن يمتنع عما يتقاضاه الطبع مضارة لها ، وقد يكون له زوج أخرى يشبع عندها حاجته الفطرية ، ويترك هذه كالمعلقة ، لا هي زوج تأنس الحياة الزوجية ، ولا هي مطلقة تأنس بأهلها ولا تذوق مضاضة الظلم والحرمان مما أحله الله ، وقد يوثق ذلك بيمين يحلفها ، ويتوهم أن من الخير البر بهذه اليمين ، وأن يترك زوجه تأكلها الغيرة ، وتكتوي بلوعة الظلم والأذى والمكايدة ، وتستوحش بتلك النفرة المستحكمة .
و لقد بين سبحانه وتعالى الأمر ، ووثق البيان ، فنهى عن الأيمان إن حلف وكان الاستمرار بالحلف على البر باليمين ظلما ، وذكر العقوبة الرادعة لمن يعمد إلى مكايدة أهله ، والإساءة إليها والإضرار بها إن استمر في غيه ولم يسلك الطريق الذي بينه رب العالمين للخروج من تبعة اليمين ، وهو تحلتها ، وهي الكفارة .
و في بيان الأمر الأول قال سبحانه وتعالى:
[ و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس] العرضة بضم العين:تطلق على النصبة التي تتعرض للسهام ونحوها ، وأطلقت على كل ما يتعرض للأشياء والأمور ، ويكون هدفا لها فيقال:فلان عرضة للسفر أي متعرض له . وتطلق العرضة على القوة والهمة ، ومن ذلك قول بعض الشعراء في مدح الأنصار:"والأنصار عرضتها اللقاء "وتطلق العرضة على الحاجز الذي يحول ويمنع .
و اليمين تطلق بمعنى الحلف والقسم ، وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا وثقوا عهودهم بالقسم يقسمونه ، وضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه ، وأطلق على القسم كلمة اليمين ، وتطلق اليمين على الأمور المحلوف بها ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك"{[305]} .
و كلمة العرضة في الآية الكريمة يصح أنت تكون بمعنى القوة ، والمعنى عليه لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم التي تمتنعون فيها عن أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، أي لا تتخذوا من قسم الله سبيلا للامتناع عن فعل الخير .
و يصح أن تكون العرضة بمعنى المعرض للأمر كقول القائل:( فلا تجعلوني عرضة للوائم ) ويكون المعنى على هذا كما قرر الزمخشري:لا تجعلوا الله سبحانه وتعالى معرضا لأيمانكم فتبتذلوا القسم بالله بكثرة الحلف ، وذلك لكي تبروا وتتقوا وتصلحوا ، وذلك لأن من يكثر الحلف يكون مهينا بين الناس ، كما قال تعالى:[ و لا تطع كل حلاف مهين 10]( القلم ) ، و لأن المكثر من الحلف لا يكون ممن يصون يمينه فيبر به ، ولذا قال تعالى:[ و احفظوا أيمانكم . . .89]( المائدة ) ومن لا يصون يمينه لا يبر بها بل يقع في الحنث الكثير وقد يكفر وربما لا يكفر ، ومن يعرض اليمين في القليل والكثير ، والعظيم والحقير من الأمور لا يكون متقيا لله ، ولمهانته لا يصلح بين الناس .
و يصح – وهو الراجح – أن تكون العرضة بمعنى الحاجز المعترض ، ويكون المعنى على ذلك:لا تجعلوا الحلف بالله سبحانه وتعالى حاجزا ممانعا بينكم وبين فعل الخير ، فلا تحلفوا في أمر يكون الامتناع فيه امتناعا عنخير وتقوى وإصلاح بين الناس ، وذلك لأن الرجل كان يحلف على الامتناع عن بر غضبا على من يطلبه ، كما روي أنا سيدنا أبا بكر حلف ألا يعطي ذا قرابة له عندما خاض في شأن ابنته عائشة في حديث الإفك عليها ، فنزل قوله تعالى:[ و لا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم 22]( النور ) .
و قد روي أيضا أن عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه ( زوج أخته ) النعمان بن بشير شيء ، فحلف بالله ألا يدخل عليه ولا يكلمه ، ولا يصلح بينه وبين خصمه ، وإذا قيل له فيه قال:قد حلفت بالله ألا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر يميني ، فكانت الآية الكريمة ناهية عن ذلك فمن حلف على شيء فرأى خيرا منه ، فلا يصلح أن يجعل الحلف بالله عرضة محاجزة دون فعل الخير ، بل عليه أن يفعل الخير ويحنث ويؤدي كفارة اليمين المذكورة في سورة المائدة ، في قوله تعالى:[ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم . . .89]( المائدة ) .
و إن تفسير العرضة بمعنى المحاجز المعارض دون فعل الخير ، هوالأرجح كما نوهنا ، والأيمان حينئذ تفسر بأنها أفعال الخير المحلوف على الامتناع منها ، ووجه الترجيح من ناحيتين:
أولهما – إن هذا التفسير هو المناسب لما يجيء بعد ذلك ، وهو المقصد من السياق ، وهو قوله تعالى:[ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوافإن الله غفور رحيم] فإن مقتضاها أنه لا يصح أن تكون اليمين محاجزة دون فيء الرجل إلى أهله ،و منع الأذى والضرر عنها .
و ثانيتهما – أن الأحاديث كثيرة متضافرة تحث الحالف على الحنث في يمينه إذا كان الحلف مؤداه الامتناع عن البر ، فقد روي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أوتيت الذي هو خير وتحللتها "{[306]} وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمان بن سمرة:"يا عبد الرحمان بن سمرة لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك "{[307]} .
و روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه"{[308]} .
و قال تعالى:[ أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس] هو بيان للخير الذي كانت اليمين تحاجز دونه ، وتمنع القيام به ، والمعنى:لا تجعلوا الله محاجزادون أيمانكم لكي تتمكنوا من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس . و النسق البياني الكريم يفيد أن علة النهي في قوله تعالى:[ و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم] هو [ أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس] .
فالخير الذي يطلب به ، ولا يصح أن تحاجز اليمين دونه ثلاثة أنواع على حسب ما كان يقع من الناس في أيمانهم:
أولها:البر بالرحم ، كما حصل في يمين الصديق الكريم أبي بكر رضي الله عنه .
و ثانيها:التقوى بأن يجعل بينه وبين أذى الناس وغضب الله بأذاهم وقاية ، كما يتبين في حلف الرجل في أهله مضارة بهن وإيذاء لهن .
و النوع الثالث:الصلح بين الناس كما حدث في يمين عبد الله بن رواحة مع ختنه النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، وما من خير يحلف الناس عن الامتناع عنه إلا وهو داخل في هذه الأنواع الثلاث .
[ و الله سميع عليم] ذيل الله سبحانه وتعالت كلماته الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للإشارة إلى أنه سميع لأيمانهم عند النطق بها وتوثيقهم القول بها ،عليم بالدوافع إليها ، والبواعث التي بعثت عليها ، والنتائج التي تتأدى إليها ، وإنه تقدست ذاته ، وتعالت صفاته ، يغفر لهم أيمانهم بالحنث ثم الكفارة في نظير الخير العميم والنفع العظيم ، ومنع الضرر والضرار بالأهل ، والبر بذوي الأرحام ، ثم ذلك التذييل الكريم لا يخلو من إنذار بغضب الرحمان الرحيم إن أصروا على ما هم عليه ولم يثوبوا إلى رشدهم ويتخذوا تحلة أيمانهم طريقا للعودة إلى البر .