مناسبة النزول:
قيل: إنَّ الآية نزلت في عبد اللّه بن رواحة الذي حلف أن لا يدخل على ختنه ولا يكلمه ولا يُصلح بينه وبين امرأته ؛فكان يقول: إني حلفت بهذا فلا يحلّ لي أن أفعله فنزلت الآية وقال المفسّرون: إنَّ كلمة] عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ[ تحتمل عدّة معان:
أحدها: المانع والحاجز من الاعتراض بين الأشياء ،فتكون نهياً عن جعل اليمين حاجزاً بين الإنسان وبين البر والتقوى والإصلاح .
ثانيها: الحجة والمبرّر عن الامتناع عن هذه الأمور ،باعتبار اضطرار الإنسان إلى الالتزام بيمينه .
وثالثها: المعرض ،بمعنى أن تكون اليمين عادة تجعل اللّه معرضاً للحلف به دائماً في الحقّ والباطل .وقد قيل إنَّ من أكثر ذكر شيء ،فقد جعله عُرضة له .
وقد يبدو لنا أنَّ الآية لا تبتعد عن الأجواء الثلاثة ،من خلال اختيار المعنى الثالث ،الذي يوحي بأنَّ الابتذال والإكثار من اليمين في كلّ شيء قد يؤدي إلى المنع من البر والتقوى والإصلاح بين النّاس ،لأنَّ العادة قد تجعله يحلف على ترك هذه الأمور في بعض الأوضاع الانفعالية التي يمر بها ،فيجعل ذلك حجّة للانحراف عن خطّ البر والتقوى والإصلاح بين النّاس ،ومانعاً عن السير في هذا الاتجاه .ولا يبعد أن لا تكون هذه المعاني التي يذكرها المفسّرون مدلولاً للفظ ؛بل هي استيحاء من جوّ الكلمة ،ومعناها أنَّ المعنى الثاني يرجع إلى الأول ،لأنَّ كونه حجّة في المنع يجعله حاجزاً عنها عن البر والتقوى .واللّه العالم .
اليمين: دوره ومعطياته:
] وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّه عُرْضَةً لاَِيْمَانِكُمْ[.أي: لا تندفعوا أيها المؤمنون في هذا الأسلوب اللاإنساني المغلّف بغلاف إيماني ،كما لو كان إيمانكم باللّه الذي لا بُدَّ من أن يطلّ بكم على الخير والبر والإصلاح بين النّاس ،حركة في الكلمة التي تؤدي إلى حركةٍ سلبيةٍ في الواقع ،فتلجأون إلى الحلف باللّه ،تقدّمونها أمامكم لتتخذوها حاجزاً بينكم وبين الانطلاق مع البرّ في الحياة ،والتقوى في الموقف ،والإصلاح بين النّاس ؛في حاجة الحياة إليكم في عملية الانفتاح على النّاس والالتزام بالخطّ ،وحل المشاكل… لتجعلوا حلفكم باللّه حجّة لكم على هذه السلبية ،ليقول بعضكم لبعض: إنني لا أملك الدخول في عملية السلام الاجتماعي ،أو في تقديم الخير لهذا أو ذاك ،أو الالتزام بهذا الخطّ أو ذاك ؛لأني حلفت باللّه على الامتناع عن ذلك ،ولليمين قدسيتها ،لأنها تمثّل قدسية الإيمان باللّه ،الذي يعني الحلف باسمه أن يكون الشاهد علينا في التزاماتنا بما نفعل أو نترك أو نتخذ من مواقف وعلاقات .
إنَّ مثل هذا الفهم الخاطىء لليمين في خطّ الإيمان ،يمثّل خطورة كبرى على حركة الإنسان في مقدساته ،لأنه يهدم القيم الإنسانية والروحية التي يحبّها اللّه باسم اللّه .وهذا هو الإخلال بالتوازن في حركة الإنسان والإيمان .
إنَّ اللّه لا يريدكم أن تحوّلوا اسمه إلى كلمة مبتذلة تكررونها في تغطية العقد النفسية ،والأحقاد الذاتية ،والمشاعر السلبية ،والانحرافات العاطفية ...ليكون حجّة لكم ومانعاً عن] أَن تَبَرُّواْ[ بما يمثّله البرّ في معنى الخير في داخل الذات وفي خدمة الإنسان والحياة ،] وَتَتَّقُواْ[ اللّه بالسير على منهاجه في تأكيد القيم الروحية والأخلاقية التي تمنح الأرض ،في إنسانها ،انضباطاً وتوازناً وقوّة في حساب المسؤولية ،] وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النّاس[ عندما يختلفون أو يتنازعون أو يتحاربون ؛فإنَّ الإصلاح يمثّل عمق الصلابة في ثبات الواقع الإنساني ،وابتعاده عن الضياع والاهتزاز .
لا تجعلوا اسم اللّه يعترض هذه القيم الأخلاقية ،لتمنعوها من الانطلاق ،ليكون حاجزاً بينكم وبين تأكيدها في حياتكم .ولا تبتذلوا اسمه بالحلف الكثير ،فإذا دعيتم لمثل هذه الأمور ،بادرتم بفعل العادة أو السرعة الانفعالية إلى الحلف ،الذي يوحي بالابتعاد عن حركة هذه القيم في حياة النّاس .فإنَّ اللّه هو إله البِر ،وربّ التقوى ،الذي يوحي لرسله ولعباده بالإصلاح بين النّاس ،فكيف تجعلون اسمه ضدّ ذلك كلّه ؟وكيف تغفلون عنه وتتحدّثون في ما بينكم بمختلف الأمور والأساليب من دون الالتفات إليه ؟!
] وَاللَّهُ سَمِيعٌ[ يسمع كلّ ما تتكلّمون به ،وما تهمسون به حتى وساوس النفس في هينمات الشعور ،] عَلِيمٌ[ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .فكيف لا يعلم حواراتكم وكلماتكم أيها المؤمنون ؟!وهذا يفرض عليكم أن تستحضروا رقابة اللّه في كلّ ما تفيضون فيه من كلمات وأفكار ،مما لا يتناسب مع الخطّ الإلهي في ما يريد للإنسان أن يفعله أو يتركه ،حتى ينضبط الإنسان في وسائل التعبير ومنطلقات الفكر ،فلا يبتعد عن مواقع رضى اللّه في حياته العامة والخاصة .
وقد نستطيع أن نفهم من هذه الآية دور اليمين في الإسلام ؛فإنَّ اليمين تعني التزام الإنسان بفعل شيء وتركه من خلال إدخال اللّه كعنصر شاهد ومؤكد على صدق هذا الالتزام وعلى توثيقه ...وبذلك يستمد الحالف من قداسة اسم اللّه المبرر والحجة على تأكيد موقفه في الالتزام العملي بالحلف ،في ما إذا طلب منه التراجع عنه .وهذا ما درج عليه النّاس في حالات الانفعال الشديد ،حيث نراهم يحلفون باللّه على ترك كثير من الأشياء التي لا يحسن بهم تركها ،أو يحلفون به على فعل بعض الأشياء التي لا ينبغي لهم فعلها ؛فيبتعدون بذلك عن خطّ البرّ والتقوى والإصلاح بين النّاس في ما إذا تعلّق الحلف ببعض الأمور التي تبتعد عن هذه الخطوط ...
وقد شدّدت الآية على رفض ذلك ،فلا يجوز للإنسان أن يتلاعب باسم اللّه ويبتذله ويتخذه حجّة في ما لا يرضي اللّه .فلا قداسة لأي يمين لا يجد الإنسان صلاحاً فيه باسم قداسة اسم اللّه ،لأنَّ تقديس اللّه الحقيقي لا يتحقّق إلاَّ بامتثال أوامره ونواهيه في ما يصلح به أمر الحياة والإنسان .فلا يمكن أن يلزم اللّه الإنسان بالسير على يمين تضاد أمر اللّه ونهيه في ما يحبّه أو يبغضه ...
وقد ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت ( ع ) ،في ما رواه أبو أيوب الخزاز ،عن أبي عبد اللّه الصادق ( ع ) قال: سمعت أبا عبد اللّه ( ع ) يقول: لا تحلفوا باللّه صادقين ولا كاذبين ،فإنه عزَّ وجلّ يقول:] وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّه عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ[.
وعن إسحاق بن عمار ،عن أبي عبد اللّه «جعفر الصادق »( ع ) في قول اللّه عزَّ وجلّ:] وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّه عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النّاس[ قال: إذا دعيت لصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين ألا أفعل .وقد أفتى الفقهاء بأنَّ من حلف على شيء فرأى خيراً منه ؛فله أن ينقض يمينه ويفعل الذي هو خير .
ومن خلال ذلك ،يتحدّد دور اليمين ،ليتمثّل في الحالات التي يريد الإنسان أن يلزم نفسه بفعل طاعةٍ أو ترك معصية أو عادة سيئة ،أو الدخول في شأن من شؤون الدنيا التي لا تنفعه في إيمانه ولا في حياته ...ففي مثل هذه الحالات ،يتحوّل اليمين إلى عنصر يدعم الإرادة ويقويها وينميها ،من خلال ما يمثّله من الالتزام بالشيء على أساس اسم اللّه ،في ما يمثّله هذا الاسم من قداسة وعظمة واحترام ...فيجتمع للإنسان ،من خلال يمينه ،شيئان ؛أحدهما: قداسة المضمون ،باعتباره شيئاً يريد اللّه فعله أو يريد تركه في ذاته .ثانيهما: قداسة الالتزام ،باعتبار ارتباطه باسم اللّه ؛وبذلك يتحوّل اليمين إلى عنصر تربوي ضاغط يستفيد منه الإنسان في دنياه وفي آخرته .