/م224
{ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} العرضة بالضم كالغرفة لها معان أظهرها هنا اثنان:أحدهما:أن يكون بمعنى المانع المعترض دون شيء أي لا تجعلوا الله تعالى مانعا بينكم وبين عمل الخير بأن تحلفوا به على تركه فتتركوه تعظيما لاسمه ، ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن جرير في سبب نزول الآية وهو حلف أبي بكر رضي الله عنه على ترك الإنفاق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك وفيه نزل:{ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن تؤتوا أولي القربى} ( النور:22 ) الآية .ويؤيده أيضا أحاديث في الصحيحين وغيرهما منها قوله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ){[182]} وقوله عليه الصلاة والسلام ( والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ){[183]} وفي حديث عائشة عند ابن ماجة وابن جرير قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه ){[184]} وفي هذا المعنى أحاديث أخرى .ذلك أن الإنسان يسرع إلى لسانه الحلف أنه لا يفعل كذا وقد يكون خيرا وليفعلن كذا وقد يكون شرا ، والله تعالى لا يرضى بأن يكون اسمه حجابا دون الخير أو محضاء للشر ، فنهى عن ذلك وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بوجوب تحري الخير ، والأحسن وإن حلف على غيره فليكفر عن يمينه بما هو منصوص في سورة المائدة .
والمعنى الثاني للعرضة ما يعرض لشيء أي ما ينصب ليعرض له الشيء كالهدف السهام ، يقال فلان عرضة للناس إذا كانوا يقعون فيه ويعرضون له بالمكروه قال الشاعر:
وإن تتركوا رهط الفدوكس عصبة *** يتامى أيامى عرضة للقبائل{[185]}
ويقال جعلته عرضة لكذا أي نصبته فكان معروضا ومعرضا له يكثر وروده عليه وقال الشاعر:
طلقتهن وما الطلاق بسبة *** إن النساء لعرضة التطليق{[186]}
والمعنى على هذا الوجه لا تكثروا الحلف بالله تعالى فالذي يجعل الله عرضة لأيمانه هو كالحلاف في قوله تعالى:{ ولا تطع كل حلاف مهين} ( القلم:10 ) فكثير الحلف حليف المهانة وقريبها ، وقد ذكر تعالى في هذه الآيات صفات أخرى ذميمة نهى عن أهلها وبدأها بالحلاف فقال بعد ما تقدم:{ هماز مشاء بنميم ، مناع للخير معتد أثيم ، عتل بعد ذلك زنيم} ( القلم:11- 13 ) فالحلاف يعد في مقدمة هؤلاء الأشرار .ومن أكثر الحلف قلت مهابته وكثر حنثه واتهم بالكذب ، ولا يكون الحلاف إلا كذابا فهو على إهانته لاسم الله تعالى يفوته ما يريد من قبول قوله وتصديقه ، فالآية الكريمة ترشدنا إلى ترك الحلف بالله تعالى إلا عند الحاجة إلى ذلك .وهذا الوجه أظهر من الذي سبقه والعرضة بهذا المعنى أكثر استعمالا .وكانت العرب تتمدح بقلة الحلف وحفظ الإيمان قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الألية برت{[187]}
الألايا جمع ألية وهي اليمين كقضية وقضايا وإنك لتجد كثيرا من أهل الدين لا يحفظون من أيمانهم ما كان يحفظ أهل الشرك في الجاهلية فأين هو من قول الإمام الشافعي:ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا ؟ وقال الأستاذ الإمام:من مذام كثرة الحلف أنه يقلل ثقة الإنسان بنفسه وثقة الناس به ، فهو يشعر بأنه لا يصدق فيحلف ، ولهذا وصفه الله تعالى بالمهين ، وكثيرا ما يعرض نفسه للخطأ إذا حلف على المستقبل ، ثم إنه لا يكون إلا قليل الخشية والتعظيم لله تعالى لا يهمه إلا أن يرضى الناس ويكون موثوقا به عندهم ، فتعريض اسم الله تعالى للحلف بدون ضرورة ولا حاجة ينشأ عن فقد هيبة الله وإجلاله من النفس فإن الناس يتملمون كثرة الحلف من أمهاتهم ومن الولدان الذين يتربون معهم وهم صغار فيتعودون عدم احترام اسم الله تعالى ( قال الأستاذ الإمام بعد تقرير هذا المعنى ) وقد نجد هذا الحلف فاشيا حتى في المشتغلين بعلم الدين ، ذلك أن علم الدين أصبح صناعة لفظية لا أثر لها في القلوب ولا في الأعمال ، وقد حدثني بعضهم حديثا أربع مرات وفي كل مرة كان يحلف عليه ويكذب فيه بما يزيد فيه وينقص منه .
وقوله تعالى:{ أن تبروا وتصلحوا بين الناس} على الوجه الأول بيان للأيمان لأنها بمعنى المحلوف عليه أي لا تجعلوه مانعا لما حلفتم على تركه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس بل إذا حلف أحدكم على ترك البر أو التقوى أو الإصلاح فليكفر عن يمينه وليفعل البر والتقوى والإصلاح ، فلا عذر لأحد في ترك ذلك ، ولا تجعلوه تعالى معرضا لأيمانكم لأجل البر والتقوى والإصلاح فإن كثير الحلف لا يكون أهلا لذلك لما تقدم من كونه يكون مهينا ، غير معظم لله تعالى ، وعرضة للكذب والحنث ، وغير موثوق بقوله ، فأنى يرضاه الناس مصلحا بينهم ؟ والمصلح مرب ومؤدب وحاكم مطاع بالاختيار .ثم قال{ والله سميع عليم} أي سميع لما تلفظون به من الحلف وغيره عليم بما يترتب على كثرة الحلف وبغيره من أعمالكم فعليكم أن تراقبوه وتتذكروا عند داعية كل قول وعمل أنه سميع لأقوالكم عليم بأفعالكم ، لعلكم تقفون عند حدود هدايته لكم فتكونون من المفلحين ، وإلا كنتم من الخاسرين .هذا الختم للآية يتضمن الوعيد على كثرة الحلف فإذا دخل ما يجري في الكلام من قصد وروية كقول الإنسان:أي والله ، ولا والله ، وعد هذا مما يؤاخذ عليه ويجري فيه الحكم السابق كان الحرج عظيما ، وقد رفع الله هذا الحرج بقوله{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} .