ثم قال تعالى{ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} بين في الآية السابقة حكم المحيض وأحل غشيان النساء بعده ، وبين في هذه الآية حكمة هذا الغشيان التي شرع الزواج لأجلها وكان من مقتضى الفطرة ، وهي الاستنتاج والاستيلاد ، لأن الحرث هو الأرض التي تستنبت والاستيلاد كالاستنبات ، وهذا التعبير على لطفه ونزاهته وبلاغته وحسن استعارته تصريح بما فهم من قوله عز وجل{ فأتوهن من حيث أمركم الله} أو بيان له ، فهو يقول إن لم يأمر بإتيان النساء الأمر التكويني بما أودع في الفطرة كل من الزوجين من الميل إلى الآخر ، والأمر التشريعي بما جعل الزواج من أمر الدين وأسباب المثوبة والقربة ، إلا لأجل حفظ النوع البشري بالاستيلاد كما يحفظ النبات بالحرث والزرع ، فلا تجعلوا استلذاذ المباشرة مقصودا لذاته فتأتوا النساء في المحيض حيث لا استعداد لقبول زراعة الولد وعلى ما في ذلك من الأذى .وهذا يتضمن النهي عن إتيانهن في غير المأتى الذي يتحقق به معنى الحرث .
وقوله تعالى{ أنى شئتم} معناه كيف شئتم{ وأنى} تستعمل غالبا بمعنى"كيف "وتستعمل بمعنى"أين "قليلا ، ولا يظهر هنا لأن الحرث له مكان واحد لا يتعداه ، والأمر مقيد به ، ولذلك أعاد ذكر الحرث مظهرا ولم يقل{ فأتوهن أنى شئتم} فكأنه يقول:لا حرج عليكم في إتيان النساء بأي كيفية شئتم ما دمتم تقصدون بها الحرث في موضعه الطبيعي ، لأن الشارع لا يقصد إلى إعناتكم ومنعكم من لذاتكم ، ولكن يريد ليوقفكم عند حدود المصلحة والمنفعة كيلا تضعوا الأشياء في غير مواضعها فتفوت المنفعة وتحل محلها المفسدة .وهذا التفسير الذي ظهر به أن الآية متممة لمعنى ما قبلها يغنينا في فهمها عما روي في أسباب النزول .
وقد ذهب بعض المفسرين والمحدثين إلى أن ( أنى ) في الآية بمعنى المكان لا بمعنى الكيفية والصفة ، وقالوا إنها نزلت في إباحة الإتيان في غير المزدرع والحرث ، فمعناها في أي النافذتين شئتم .قال الأستاذ الإمام إن جنون المسلمين بالرواية هو الذي حمل بعضهم على تفسير الآية بهذا المعنى الذي تتبرأ منه عبارتها العالية ونزاهتها السامية ، ولم يلتفتوا إلى ذوق التعبير ومراعاة الأديب في بيان هذه الأحكام كما رأوا في الآية الكريمة ، فقد فاتهم فهم حكمها ، كما فاتهم فهم حكمتها ونزاهتها وأدبها .وأقول إن ما اختاره الأستاذ الإمام في تفسير{ أنى شئتم} هو المأثور عن أئمة السلف والخلف وهو ظاهر من لفظ الآية لا يشتبه فيه من له ذوق العربية والروايات متعارضة متناقضة وأصحها حديث جابر عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم وهو أن سبب نزولها حظر اليهود إتيان الحرث بكيفية غير المعهودة عندهم وزعمهم أن الولد يجيء أحول إذا كان العلوق بالوقاع من الطرف الآخر{[181]} ، وتكذبهم التجارب .وأما ما روى في إباحة الخروج عن سنة الفطرة فلا يصح منه شيء ، ولئن صح سندا فهو لن يصح متنا ، ولا يخرج عن هدي القرآن ومحجته البيضاء لرواية أفراد قيل إنه لا يعرف عنه ما يجرح روايتهم .
ويؤيد التفسير المختار قوله تعالى بعدما تقدم{ وقدموا لأنفسكم واتقوا الله} الخ .فهذه أوامر تدل على أن هنا شيئا يرغب فيه وشيئا يرغب عنه ويحذر منه .أما ما يرغب فيه فهو ما يقدم للنفس وهو ما ينفعها في المستقبل ولا أنفع للإنسان في مستقبله من الولد الصالح ، فهو ينفعه في دنياه كما هو ظاهر ، وفي دينه من حيث إن الوالد سبب وجوده وصلاحه ، وقد ورد في الحديث أن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه دعاؤه بعد موته ، ولا يكون الولد صالحا إلا إذا أحسن والداه تربيته ، فالأمر بالتقديم للنفس ، يتضمن الأمر باختيار المرأة الودود الولود التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها ، كما يختار الزراعة في الأرض الصالحة ، التي يرجى نماء النبات فيها وإيتاؤه الغلة الجيدة ، ويتضمن الأمر بحسن تربية الولد وتهذيبه .
وأما ما يحذر منه ويتقى الله فيه فهو إخراج النساء عن كونهن حرثا بإضاعة مادة النسل في المحيض أو بوضعها في غير موضع الحرث ، وكذلك اختيار المرأة الفاسدة التربية وإهمال تربية الولد .فإن الأمر بالتقوى ورد بعد نهي عن إتيان النساء في المحيض والأمر بإتيانهن من حيث أمر الله تعالى وهو موضع الحرث والأمر بالتقديم لأنفسنا فوجب تفسير التقوى بتجنب مخالفة هذا الهدى الإلهي .
وقوله تعالى{ واعلموا أنكم ملاقوه} إنذار للذين يخالفون عن أمره بأنهم يلاقون جزاء مخالفتهم في الآخرة كما يلاقونها في الدنيا ، بفقد منافع الطاعة والامتثال وتجرع مرارة عاقبة المخالفة والعصيان .ثم قرن إنذار العاصين بتبشير المطيعين فقال{ وبشر المؤمنين} الذين يقفون عند الحدود ويتبعون هدى الله تعالى في أمر النساء والأولاد ، وقد حذف ما به البشارة ليفيد أنه عام يشمل منافع الدنيا ونعيم الآخرة .ولا يعزب عن فكر العاقل أن من يختار لنفسه المرأة الصالحة ولا يخرج في شأن الزوجية عن سنة الفطرة والشريعة في ابتغاء الولد ، ثم إنه يحسن تربية ما يرزقه الله من ولد ، فإنه يكون في الدنيا قرير العين بحسن حاله وحال أهله وسعادة بيته .وأما الذين تطغى بهم شهواتهم فتخرجهم عن الحدود والسنن فإنهم لا يسلمون من المنغصات والشقاء في حياتهم الدنيا ، وهو في الآخرة أشقى وأضل سبيلا ، وإنما سعادة الدارين في تكميل النفس بالاعتقاد الصحيح ، والأخلاق المعتدلة ، وتلك هي الفطرة السليمة .والتعبير بالمؤمنين يشعر بأن العمل والامتثال والإذعان مما يتحقق به إيمان المؤمن وأن فائدة الإيمان بثمراته هذه ، وإن شئت قلت بتمام أركانه وهي الاعتقاد والقول والفعل ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة المبينة للآيات الكريمة ، والدامغة للذين يفصلون بين الاعتقاد والأعمال اللازمة له .
وإننا نعيد التنبيه للاقتداء بنزاهة القرآن في التعبير عن الأمور التي يستحيا من التصريح بها بالكنايات البعيدة التي يفهم منها المراد ولا تستحي من تلاوتها العذراء في خدرها ، فإن الإتيان بمعنى المجيء هو كناية لطيفة كقوله{ ولا تقربوهن} وتشبيه النساء بالحرث لا يخفى حسنه .فأين هذه النزاهة مما تراه لبعضهم في تفسيرها وتفسير أمثالها من الآيات المعجزة بنزاهتها كإعجازها ببلاغتها ، ومما تراه في بعض كتب الدين الأخرى من العبارات المستهجنة التي قد يستغنى عنها في بيان المراد منها .