{ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهم حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين 222 نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين 223}
هذا هو السؤال الثالث من الأسئلة التي وردت معطوفة بالواو وهو يتصل بما قبله وما بعده في أن ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء ، وأما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فلم تكن في موضوع واحد فيعطف بعضها على بعض فجاءت على الأصل في سرد التعدد .وقد كانت هذه الأسئلة في المدينة حيث الاختلاط بين العرب واليهود ، وهؤلاء يشددون في مسائل الحيض والدم كما هو مذكور في الفصل الخامس عشر من سفر اللاويين من الأسفار التي يسمون جملتها التوراة .ومنها أن كل من مس الحائض في أيام طمثها يكون نجسا ، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء ، وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء يكون نجسا إلى المساء ، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام ، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا الخ .وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام عندهم .
وأما النصارى فقد نقل عنهم أنهم كانوا يتساهلون في أمر المحيض وكانوا مخالطين للعرب في مواطن كثيرة ، وروي أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلوهن كفعل اليهود والمجوس ، ومن شأن الناس التساهل في أمور الدين التي تتعلق بالحظوظ والشهوات فلا يقفون عند الحدود المشروعة فيها لمنفعتهم ومصالحتهم فكان اختلاف ما عرف المسلمون عن أهل الكتاب مما يحرك النفس للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة المصلحة ، فسألوا كما في حديث أنس الآتي قريبا فأنزل الله تعالى على نبيه .
{ ويسألونك عن المحيض} أي عن حكمه والمحيض هو الحيض المعروف وهو الدم الذي يخرج من الرحم على وصف مخصوص في زمن معلوم ، لوظيفة حيوية صحية تعد الرحم للحمل بعده إذا حصل التلقيح المقصود من الزوجية لبقاء النوع .فالمحيض كالحيض مصدر كالمجيء والمبيت ويطلق على زمان الحيض ومكانه ، والمرأة حائض بدون تاء لأنه وصف خاص وجمعه بتشديد الياء ( كراكع وركع ) وورد حائضة وجمعه حائضات .ولا حاجة إلى تقدير محل المحيض فإنما يسأل الشارع عن الأحكام{ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} قدم العلة على الحكم ورتبه عليها ليؤخذ بالقبول من المتساهلين الذين يرون الحجر عليهم تحكما ، ويعلم أنه حكم للمصلحة لا للتعبد كما عليه اليهود ، والمراد من النهي عن القرب النهي عن لازمه الذي يقصد منه وهو الوقاع ، والمعنى أنه يجب على الرجل ترك غشيان نسائهم زمن المحيض لأن غشيانهن سبب للأذى والضرر ، وإذا سلم الرجل من هذا الأذى فلا تكاد تسلم منه المرأة لأن الغشيان يزعج أعضاء النسل فيها إلى ما ليست مستعدة له ولا قادرة عليه لاشتغالها بوظيفة طبيعية أخرى هي إفراز الدم المعروف .
وقد فسر الجلال الأذى بالقذر تبعا لغيره .على أن أخذه على ظاهره وهو الضرر مقرر في الطب فلا حاجة إلى العدول عنه .وقد جاء هذا الحكم وسطا بين إفراط الغلاة الذين يعدون المرأة الحائض وكل من يمسها أو يمس ثيابها أو فراشها من النجاسات ، وتفريط المتساهلين الذين يستحلون ملابستها في الحيض على ما فيه من الأذى والدنس .
وقد أفادت عبارة الآية الكريمة تأكيد الحكم إذ أمرت باعتزال النساء في زمن المحيض ، وهو كناية عن ترك غشيانهن فيه ، ثم بينت مدة هذا الاعتزال بصيغة النهي .والحكمة في التأكيد هي مقاومة الرغبة الطبيعية في ملابسة النساء وإيقافها دون حد الإيذاء .وكان يظن بعض الناس أن الاعتزال وترك القرب حقيقة لا كناية ، وإنه يجب الابتعاد عن النساء في المحيض وعدم القرب منهم بالمرة ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم أن المحرم إنما هو الوقاع .
عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله عز وجل{ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اصنعوا كل شيء إلا الجماع ){[178]} رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن .وفي حديث حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال ( لك ما فوق الإزار ){[179]} أي ما فوق السرة رواه أبو داود ، وقد حمل بعضهم النهي على ما يخاف على نفسه الوقاع ، وكأن السائل كان كذلك ، وقال بعضهم إن هذا الحديث مخصص للحديث الأول ولما في معناه فلا يجوز الاستمتاع إلا بما فوق السرة والركبة ، وهو تخصيص بالمفهوم والخلاف فيه عند الأصوليين معلوم .
قرأ حمزة والكسائي وعاصم ( يطَّهَّرْن ) بتشديد الطاء وأصله يتطهَّرن والباقون بالتخفيف .
{ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} الطهر في قوله تعالى{ حتى يطهرن} انقطاع دم الحيض وهو ما لا يكون بفعل النساء ، وأما التطهر فهو من عملهن وهو يكون عقب الطهر ، واختلفوا في المراد منه فقال بعض العلماء هو غسل أثر الدم وقال مجاهد وعكرمة إن انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن تتوضأ ، والجمهور على أن المراد به الاغتسال بالماء إن وجد ، ولا مانع منه وإلا فالتيمم .وقالت الحنفية إن طهرت لأقل من عشر فلا تحل إلا إذا اغتسلت وإن لعشر حلت ولو لم تغتسل وهو تفصيل غريب .والأمر بإتيانهن لرفع الحظر في النهي عن قربهن وبيان شرطه وقيده .والظاهر أن المراد بلفظ الأمر في قوله{ فأتوهن من حيث أمركم الله} الأمر التكويني أي فأتوهن من المأتى الذي برأ الله تعالى الفطرة على الميل إليه ومضت سنته بحفظ النوع به وهو موضع النسل ويحتمل أن يكون المراد بالأمر ما قضت به شريعة الله تعالى من طلب التزوج وتحريم الرهبانية فليس للمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرب إلى الله تعالى لأنه سبحانه قد امتن علينا بأن خلق لنا من أنفسنا أزواجنا لنسكن إليها وأرشدنا إلى أن ندعوه بقوله{ ربنا هب لنا من أزوجنا وذرياتنا قرة أعين} ( الفرقان:74 ) ولا يتقرب إليه تعالى بترك ما شرعه وامتن به على عباده وجعله من نعمه عليهم .
فإتيان النساء بالزواج الشرعي من الجهة التي ينبغي بها النسل من أعظم العبادات ، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالفة لسنة الله تعالى في خلقته ، وسنته في شريعته ، ولما قال عليه الصلاة والسلام ( في بضع أحدكم صدقة ) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ){[180]} الحديث وكأن السائلين كانوا توهموا أن الإسلام يكون كالأديان الأخرى يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة الفطرة ، كلا إنه دين الفطرة يحمل الناس على إقامتها مع القصد وعدم البغي فيها .
{ إن الله يحب التوابين} الذين إذا خالفوا سنة الفطرة بغلبة سلطان الشهوة فأتوا نسائهم في زمن المحيض أو في غير المأتى الذي أمر الله به يرجعون إليه تائبين ولا يصرون على فعلهم السيء{ ويحب المتطهرين} من الأحداث والأقذار ، من إتيان المنكر ، بل هؤلاء أحب إليه من الذين يقعون في الدنس ثم يتوبون منه .