يسألونك عن المحيض:
كانت هناك مشكلة تراود المسلمين في علاقتهم بالنساء في حالة الحيض ، وهو الدم الذي تراه المرأة بشكل دوري في موعد معين من الشهرفقد كانت هناك بعض التصوّرات والعادات التي تعتقد أنَّ المرأة تتحوّلفي هذا الوقتإلى إنسان نجس ،فكانوا يمتنعون عن مخالطتها ومؤاكلتها ومشاربتها ...ما يجعل منها عنصراً معزولاً عن المجتمع ،في ما تذكره بعض الأخبار ،وقد كان هذا مصدر حرج شديد على النّاس .وجاء الإسلام بتشريعاته المتنوّعة في شؤون الحياة ،وعاش المسلمون هذه المشكلة في هاجس يلح على الحل الأمثل الذي يخلّصهم من هذا الإزعاج ،فكان هذا السؤال تعبيراً عن ذلك .
] وَيسألونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ[ عن الموقف الذي يتخذونه من هذا الدم الذي تراه المرأة ،الخارج منها في العادة الشهرية المعروفة لدى سائر النساء ؛وهو الدم الذي يتجمع شهرياً في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل ،ذلك لأنَّ مبيض المرأة يدفع كلّ شهر بويضته إلى الرحم ،وفي الوقت نفسه تمتلىء عروق الرحم بالدم استعداداً لتغذية الجنين ،فإذا انعقد الجنين ،يستهلك الدم لتغذيته وإلاَّ يخرج بشكل دم حيض .
هل تتحوّل المرأة إلى إنسان قذر لا بُدَّ من اجتنابه والابتعاد عنه من خلال قذارة الدم ؟وكيف يعالجون أوضاعهم مع نسائهم في مثل هذه الحال ؟.
فقد كان اليهود يتشدّدونكما ذكرنا في أول الفصلويفارقون النساء في المحيض في عملية عزل ومقاطعة في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع .وهناك في التوراة أحكام شديدة في أمرهن في هذه الحال ،وحرّمت التقرّب منهن في المجلس والمضجع والمسّ ونحو ذلك ...وأمّا النصارى فلم تكن لديهم مشكلة في أي جانب من هذه الجوانب ،بل يجدون حالهن في هذه الحال كبقية الحالات الأخرى .
وجاء الجواب حاسماً يضع القضية في نطاقها الطبيعي] قُلْ هُوَ أَذًى[.فإنَّ هذه الحالة لا تزيد عن أية حالة طبيعية من حالات الجسم التي يقتضيها نظامه المحدّد ،ولكنَّها تختلف عن الحالات الأخرى بأنها تتمثّل في نزول الدم الذي يحدث حالة من الأذى ،التي تلتقي ببعض آلام العادة الشهرية من جهة ،وبالقذارة التي تصيب الجسد في هذه الحالة ،وببعض الجوانب النفسية الأخرى ...ولذلك فإنها لا تحدث أي تأثير سلبي في الوضع العام للمرأة في المجتمع ،فلا توجب نجاسة جسدها ،ولا تؤثر في الجوّ الذاتي لشخصيتها ؛بل كلّ ما هناك أنها تجعل من العلاقة الجنسية شيئاً غير مرغوب فيه ،من خلال قذارة المحل من جهة ،أو من خلال استعداد الجسد لدخول الميكروباتكما يقول البعضمن جهة أخرى ...وربما كانت هناك جوانب أخرى تتصل بالحالة النفسية غير المريحة في هذا الوقت .وقد أجمل القرآن هذه المعاني بكلمة] أَذًى[ التي تشير إلى الجوانب الصحية والمعنوية .
فقد ذكر البعضفي الطب المعاصرأنَّ المقاربة ،في حال الحيض ،قد تؤدي إلى عقم الرّجل أو المرأة ،وإلى إيجاد محيط لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والالتهابات الداخلية للأعضاء التناسلية للرّجل والمرأة ،ودخول مواد الحيض المليئة بميكروبات الجسم في عضو الرّجل .هذا بالإضافة إلى أنَّ الحيض يُحدث آلاماً والتهابات حادّة في أعضاء التناسل لدى الأنثى ،ما يجعل من الجماع إيذاءً لها من خلال ما يضيفه من الآلام وغير ذلك .
وعلى هذا الأساس ،كان الأمر الإلهي باعتزال النساء في حالة الحيض:] فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ[،لأنَّ المقاربة بين الزوج وزوجته لا بُدَّ من أن تكون في وضع طبيعي من الناحية الجسدية بحيث لا تؤدي إلى ضرر لأيّ منهما ،ومن الناحية الروحية بحيث تنفتح على الراحة النفسية المزاجية في انفعال كلّ منهما بأجواء الرغبة الجنسية ،من دون أية حالةٍ منفّرة .وهذا مما لا يتناسب مع حالة النساء في حال الحيض التي تترك أكثر من تأثير سلبي على الطرفين معاً .
] وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ[ وهو كناية عن الترك بأسلوب أكثر تأكيداً ،لأنَّ النهي عن القرب أمر ضمني بالابتعاد الذي يوحي بالمقاطعة ،ولكنَّها ليست القطيعة الكلية في عزل المرأة عن المجتمع ،بل الاجتناب عن مواقعتها في العلاقة الجنسية ،فليس لهم أن يمارسوا العلاقة معهن .وبذلك فقد اقتصر الإسلام على تحديد هذه العلاقة من خلال هذا الأذى الطبيعي ،الذي قد يتحوّل إلى أذى جسدي ومعنوي للرّجل والمرأة ؛وأبقى للمرأة وضعها الاجتماعي مع زوجها وأولادها وسائر النّاس ،فاحترم إنسانيتها لأنَّ هذه الحالة لا تترك أي تأثير على أي عنصر ذاتي من عناصر شخصيتها الفردية والاجتماعية ،لأنَّ قذارة عضو في الجسد لا تعني قذارة الإنسان في تفاعله مع المجتمع وتفاعل المجتمع معه ،لا سيما في الحالات الطبيعية التي لا تمثّل أية حالة سلبية في الإنسان من حيث عقله وحركته الخاصة والعامة ...
فليس هناك إلاَّ الاعتزال لهنَّ في حال الحيض في العلاقة الجنسية] حَتَّى يَطْهُرْنَ[.والطهر: النقاء من الدم ،باعتبار زوال المسبب بزوال السبب ،فإذا كان دم الحيض هو الأساس في حرمة الجماع ،فلا بُدَّ من زوال الحكم بنقاء المرأة من الدم .] فَإِذَا تَطَهَّرْنَ[ وقد يُراد به تأكيد القضية الواردة في الفقرة السابقة باعتبار أنَّ نقاء المرأة من الدم طهور لها ،فكأنها تتطهر بالنقاء كحالة طبيعية في الواقع الجسدي ،وبذلك يجوز للإنسان ،على هذا الوجه ،مقاربة زوجته بعد النقاء وقبل الغسل .وربما يُراد من التطهر الغسل ؛غسل الحيض ،أو غسل الفرج لإزالة القذارة .ولكن الأقرب إلى أجواء الآية هو المعنى الأول ،باعتبار أنها ظاهرة في الرخصة بعد المنع على أساس ارتفاع المانع الموجب للحرمة .أمّا مسألة غسل موضع الفرج أو الاغتسال ،فقد تقتضيهما طبيعة الحالة النفسية التي لا تُقبِل على الموضع القذر إلاَّ بعد غسله .لأنَّ النّاس قد يتعاملون مع آثار القذارة في المحل كتعاملهم مع القذارة نفسها ،لذلك تراهم يعملون على إزالة الأثر حتى بعد زوال العين .وفي ضوء ذلك ،يمكن أن تكون إرادة هذا المعنىعلى التقدير الآخرمطلقة من الحالة الطبيعية للإنسان ،لا من خلال الشرط الشرعي للرخصة .وعلى كلّ حال ،فإنَّ الحرمة ترتفع بارتفاع هذا الأدنى وزوال تلك القذارة ،فيمكن للنّاس العودة إلى الوضع الطبيعي في علاقتهم بالنساء .
] فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه[.وهذا أمرٌ وارد على سبيل رفع الحرمة ،فلا دلالة فيه على الوجوب ،تماماً كما في كلّ أمر وارد بعد الحظر أو في مقام توهمه .أمّا تحديد الإتيان بكونه] مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه[ فقد يكون المراد منه الإشارة إلى الفرج الذي أمر بتجنبه ؛وقد يفسّر بأنه إشارة إلى طبيعة الجماع الذي أمر اللّه به في تقرير النظام في حياة النوع الإنساني ،فليس هو من قبيل الأفعال التي تعيش في هامش الوجود الإنساني ،كبعض الأفعال الصادرة منه على سبيل اللغو واللهو ،باعتبار أنَّ امتداد هذا الوجود وحيويته متوقفان على ذلك فهو من النواميس الكونية .وفي ضوء ذلك ،يكون المراد بالأمر بالإتيان في الآية ،الأمر التكويني المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد ،كما ذكره صاحب الميزان .وقد يُراد بهكما عن ابن الحنفيةمن قبل النكاح دون الفجور .وقال الزجاج: معناه ،من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة .ولا تقربوهن من حيث لا يجب .أي لا تقربوهن وهن صائمات أو محرمات أو معتكفات .وقال الفراء: ولو أراد الفرج ،لقال: «في حيث » .فلما قال:] مِنْ حَيْثُ[ علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم اللّه بها .وقال غيره: إنما قال:] مِنْ حَيْثُ[ لأنَّ ( من ) لابتداء الغاية في الفعل ،نحو قولك: ائت زيداً من مأتاه ،أي من الوجه الذي يؤتى منه .
وربما كان هذا الاختلاف في تفسير القيد ناشئاً من قابلية التعبير لأكثر من وجه ،ما جعل للاجتهاد في استيحاء الآية مجالاً واسعاً .ولكنَّنا نلاحظ ،في هذه المسألة ،أنَّ القيد لا بُدَّ من أن يكون وارداً لإفادة معنى جديد مما لا يلتفت النّاس إليه غالباً ،أو مما يحتاج النّاس إلى معرفته ويقتضي التنبيه عليه .وفي ضوء ذلك ،نجد الحديث عن «الفرج » كموضع للإتيان ليس من الأمور التي تمسّ الحاجة إلى تقريره ،لأنه المكان الطبيعي للجماع في الواقع الإنساني العام ،سواء كان ذلك من جهة الحصول على اللذة أو جهة طلب الولد ،فهو المكان الذي يتجه إليه النّاس بفطرتهم وطبيعتهم الذاتية .أمّا القول بأنه وارد في مورد التحذير عن «الإتيان في الدبر » ،فهو غير دقيق ،أولاً: لأنَّ ذلك موقوف على ورود التعبير بأسلوب الحصر ،الذي لا دليل عليه في هذه الفقرة ،لا من اللفظ ولا من السياق ؛فهي واردةعلى أساس هذا الاحتمالللرخصةبعد زوال المانعفي الإتيان في الفرج الذي هو موضع الحيض .
وهذا لا مفهوم له ،لأنَّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن غيره .وقد قرر علماء الأصول أنَّ اللقب لا مفهوم له ،وأنَّ الأمر بشيء لا يدل على النهي عن الضدّ الخاص .
وثانياً: فإنَّ الحديث عمّا أمر اللّه به لا بُدَّ من أن يكونعلى تقدير إرادتهإشارة إلى أمر سابق بالإتيان في الفرج لا في الدبر ،وهو مما لا دلالة عليه في القرآن .أمّا ما ذكره العلامة الطباطبائي من إرادة الأمر التكويني في نظام النوع الإنساني في تقرير الزواج ،فليس للفظ ظهور فيه ،ولا باعتبار أنَّ هذا النظام جارٍ على سبيل الفطرة الإنسانية الذي ينطلق النّاس إليه ويأخذون به من خلال الحاجة الطبيعية التي يريدون تحقيقها في حياتهم لإرادة الشهوة ولطلب الولد ،تماماً كما يأكلون ويشربون ويلبسون ،لا من خلال اللهو واللغو الذي لا معنى له ؛ما يجعل الحديث عنه لغواً لا فائدة منه ،لأنه تقرير لحقيقةٍ واضحةٍ لدى النّاس أكثر من وضوح الكلمة في الآية .
وثالثاً: استبعاد إرادة الأمر التكويني في نطاق السياق التشريعي الذي يتحدّث عن الأمر والنهي ،من الناحية المتصلة بالتشريع في الرخصة والمنع كما هو سياق الآية ،بل الظاهر منه الأمر المتصل بالنظام الشرعي للعملية الجنسية .
وربما كان الاحتمال الثالث هو الأقرب إلى الاعتبار وإلى الظهور من خلال القرينة السياقية ،وذلك لأنَّ الآية واردة في بيان الحدود التي فرضها اللّه في علاقة الرجال بالنساء من الناحية الجنسية .فإذا كان اللّه قد حرّم إتيانهن في حال الحيض ،وأمر باعتزالهن ،وأراد للنّاس أن يقفوا عند هذا الحدّ ،فإنه يريد لهم ،بعد زوال الحيض ،أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية السابقة التي وضع اللّه لها نظاماً في أوامره ونواهيه ؛فلا يبتعدوا عن نهج اللّه في شرعه ،فيدخل في مدلول الفقرة كلّ الأوامر المتعلّقة بالأفعال والتروك .أي: فأتوهن من الجانب المرتبط بأمر اللّه ،وليس لكم إتيانهن من طريق الحرام .ولعلّ الفقرة التالية التي تتحدّث عن التوّابين والمتطهرين توحي بذلك ،ولو من بعيد ،واللّه العالم .
] إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَابِينَ[ الذين إذا وقعوا في المعصية وطاف بهم الشيطان فأبعدهم عن اللّه ،ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ،وتابوا منها ،وأنابوا إليه ،ولم يصروا على ما فعلوا ...فهؤلاء هم الذين يختزنون في أعماقهم الإيمان باللّه والمحبة له والالتزام بطاعته ،من دون أية حالة للتمرّد التي تتنافى مع الإحساس بالعبودية .وهم الذين لم تنطلق معصيتهم في خطيئاتهم من جحود باللّه ،ولا استهانة بعقوبته ،ولا تهاون بوعيده ،ولا استخفاف بأمره ونهيه ...بل انطلقت من غفلة العمل وثورة الغريزة ،ونداء الجسد ووسوسة الشيطان ،فهي حدث عارض في حركة العمق الإيماني في الذات ،وليست حالةً عميقةً مستقرة .ولذلك كانوا أهلاً لمحبة اللّه من خلال محبتهم له .] وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[ الذين يتطهرون من قذارة الكفر والضلال والذنوب الكبيرة والصغيرة ،فيلتقون بالتوّابين الذين تمثّل التوبة لديهم حالة من التطهر الروحي ،الذي يتحوّل إلى حالةٍ من التطهر الجسدي .
واللّه يريد للإنسان أن يعيش حالة التطهر الجسدي كما يريد له أن يعيش حالة التطهر الروحي ،لأنَّ الحياة المستقيمة الطاهرة في نظامها الطبيعي المتوازن في الجانب الفردي والاجتماعي ،بحاجة إلى الطهارتين معاً ؛ولذلك أمر اللّه بهما معاً ،فقد تحدّث عن الطهارة المادية في أكثر من آية:] وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[ [ المدثر:4] ،وقوله:] وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ[ [ الأنفال:11] ،وقوله:] وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه[...
وعن طهارة القلب في قوله:] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّه فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّه شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [ المائدة:41] .وعن الطهارة الروحية والنفسية:] وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّه وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً[ [ الأحزاب:33] .
وعن طهارة المال:] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ [ التوبة:103] ،وطهارة المسجد من الأوثان والشرك:] وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[ [ الحج:26] ؛وطهارة الماء:] وَهُوَ الَّذي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً[ [ الفرقان:48] ؛وطهارة الشراب:] عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً[ [ الإنسان:21] ؛وغير ذلك ،ما يوحي بأنَّ اللّه يريد للإنسان أن يعيش في حياته الطهارة المادية التي تتحوّل إلى حالة نفسية ترفض القذارة الخبيثة ،وتتحوّل إلى حالة عبادية ترفض التأثيرات المعنوية السلبية الناتجة عن الحدث الأكبر والأصغر ،وإلى محيط طاهر نظيف يبتعد به الإنسان عن الأمراض والأوضاع المنفرة الناشئة من القذارات في جسده وفي طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وفي ما حوله ومن حوله ...كما يريد له أن يعيش الطهارة الروحية في الفكر الطاهر ،والقلب الطاهر ،والعمل النظيف ،والقول الطاهر ...لتجتمع له في وجدانه الحضاري ،وفي نظامه الفردي والاجتماعي كلّ عناصر الطهارة .وفي ضوء ذلك ،كانت محبة اللّه للمتطهرين ،لأنهم أخذوا بأسباب الطهارة التي أمرهم بها في حياتهم الداخلية والخارجية ؛ما يوحي بأنهم يعيشون في عمق الحبّ للّه ،من حيث يتحرّكون في خطّ طاعته وموقع رضاه .
ولعلّ مناسبة الحديث عن التوابين والمتطهرين في هذه الآية ،في سياق الحديث عن اعتزال النساء في الحيض ،هو أن لا يتعقد النّاس مما قد تدفعهم إليه الغريزة من إتيان النساء في حال الحيض ،فيرتكبون ما حرّمه اللّه ،فيسقطون تحت تأثير الذنب كما لو كان ذنباً لا يغتفر .فانطلقت الآية ،لتؤكد لهم أنَّ اللّه قد فتح لهم باب التوبة ؛فإذا ندموا على ذلك وعزموا على عدم العودة إليه ،فإنه يمنحهم محبته التي تنفتح على مغفرته وعفوه ورضوانه .وإذا تراجعوا عن البقاء في القذر المادي والروحي ،أحبهم اللّه ومنحهم مغفرته .
وإذا تحقّق للمرأة الطهر ؛وهو النقاء في تفسير البعض ،والاغتسال في تفسير آخرين ،فيمكن الرجوع إلى العلاقة الجنسية من حيث أمرهم اللّه .ويختلف المفسّرون في هذه الكلمة ،فيرى البعض أنَّ ذلك إشارة إلى المكان الطبيعي للجماع ،ويرى البعض أنه يعني الوجه الذي أمر اللّه أن يؤتى منه ،من دون ملاحظة لموضوع المحل الخاص ،بل يتصل بالحدود التي جعلها اللّه لذلك .وتختم الآية الحكم الشرعي بالإيحاء بضرورة التوبة في حالة الانحراف عن الخطّ الإسلامي في الأحكام الشرعية ،وبضرورة التطهر بالابتعاد عن كلّ الأوضاع التي توجب القذارة الجسدية والروحية ،وذلك للحصول على محبة اللّه الذي يحبّ التوابين ،باعتبار أنَّ التوبة تمثّل الشعور بالحاجة إلى رضى اللّه بعد التعرّض لغضبه ،ويحبّ المتطهرين الذين يريدون أن يعيشوا الحياة في طهر جسدي وروحي ،ليحصلوا على رضى اللّه في ذلك .