قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس:أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل أصحاب النبي [ النبي] صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل:( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن ) حتى فرغ من الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا:ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا:يا رسول الله ، إن اليهود قالت كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا ، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما .
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة .
فقوله:( فاعتزلوا النساء في المحيض ) يعني [ في] الفرج ، لقوله:"اصنعوا كل شيء إلا النكاح "; ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج .
قال أبو داود:حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ، ألقى على فرجها ثوبا .
وقال أبو داود أيضا:حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد الله يعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن يعني ابن زياد عن عمارة بن غراب:أن عمة له حدثته:أنها سألت عائشة قالت:إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد ؟ قالت:أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم:دخل فمضى إلى مسجده قال أبو داود:تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال:"ادني مني ". فقلت:إني حائض . فقال:"اكشفي عن فخذيك ". فكشفت فخذي ، فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم . وقال:أبو جعفر بن جرير:حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة:أن مسروقا ركب إلى عائشة ، فقال:السلام على النبي وعلى أهله . فقالت عائشة:أبو عائشة ! مرحبا مرحبا . فأذنوا له فدخل ، فقال:إني أريد أن أسألك عن شيء ، وأنا أستحي . فقالت:إنما أنا أمك ، وأنت ابني . فقال:ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت:له كل شيء إلا فرجها .
ورواه أيضا عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ، عن مروان الأصفر ، عن مسروق قال:قلت لعائشة:ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا ؟ قالت:كل شيء إلا الجماع .
وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وعكرمة .
وروى ابن جرير أيضا ، عن أبي كريب ، عن ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن ميمون بن مهران ، عن عائشة قالت:له ما فوق الإزار .
قلت:وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف . قالت عائشة:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ، فيقرأ القرآن . وفي الصحيح عنها قالت:كنت أتعرق العرق وأنا حائض ، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب فأناوله ، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب .
وقال أبو داود:حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن جابر بن صبح سمعت خلاسا الهجري قال:سمعت عائشة تقول:كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد ، وإني حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء ، غسل مكانه لم يعده ، وإن أصاب يعني ثوبه شيء غسل مكانه لم يعده ، وصلى فيه .
فأما ما رواه أبو داود:حدثنا سعيد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن أبي اليمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة:أنها قالت:كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر فهو محمول على التنزه والاحتياط .
وقال آخرون:إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض . وهذا لفظ البخاري . ولهما عن عائشة نحوه .
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث العلاء بن الحارث ، عن حزام بن حكيم ، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري:أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال:"ما فوق الإزار ".
ولأبي داود أيضا ، عن معاذ بن جبل قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض . قال:"ما فوق الإزار ، والتعفف عن ذلك أفضل ". وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وشريح .
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم . ومأخذهم أنه حريم الفرج ، فهو حرام ، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل ، الذي أجمع العلماء على تحريمه ، وهو المباشرة في الفرج . ثم من فعل ذلك فقد أثم ، فيستغفر الله ويتوب إليه . وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان:
أحدهما:نعم ، لما رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض:"يتصدق بدينار ، أو نصف دينار ". وفي لفظ للترمذي:"إذا كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار ". وللإمام أحمد أيضا ، عنه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ، دينارا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل ، فنصف دينار .
والقول الثاني:وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ، وقول الجمهور:أنه لا شيء في ذلك ، بل يستغفر الله عز وجل ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه [ قد] روي مرفوعا كما تقدم وموقوفا ، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ، فقوله تعالى:( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) تفسير لقوله:( فاعتزلوا النساء في المحيض ) ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ، ومفهومه حله إذا انقطع ، [ وقد قال به طائفة من السلف . قال القرطبي:وقال مجاهد وعكرمة وطاوس:انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ] .
وقوله:( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال . وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ، لقوله:( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر . وفيه أقوال لعلماء الأصول ، منهم من يقول:إنه للوجوب كالمطلق . وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ، ومنهم من يقول:إنه للإباحة ، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ، وفيه نظر . والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن كان واجبا فواجب ، كقوله تعالى:) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) [ التوبة:5] ، أو مباحا فمباح ، كقوله تعالى:( وإذا حللتم فاصطادوا ) [ المائدة:2] ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) [ الجمعة:10] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة ، وقد حكاه الغزالي وغيره ، واختاره بعض أئمة المتأخرين ، وهو الصحيح .
وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم ، إن تعذر ذلك عليها بشرطه ، [ إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري ، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ، ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم أيضا ، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم] . إلا أن أبا حنيفة ، رحمه الله ، يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده:إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل [ ولا يصح لأقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل عليها وقت صلاة إلا أن تكون دمثة ، فيدخل بمجرد انقطاعه] والله أعلم .
وقال ابن عباس:( حتى يطهرن ) أي:من الدم ( فإذا تطهرن ) أي:بالماء . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، ومقاتل بن حيان ، والليث بن سعد ، وغيرهم .
وقوله:( من حيث أمركم الله ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد:يعني الفرج ; قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( فأتوهن من حيث أمركم الله ) يقول في الفرج ولا تعدوه إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى .
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة:( فأتوهن من حيث أمركم الله ) أي:أن تعتزلوهن . وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ، كما سيأتي تقريره قريبا .
وقال أبو رزين ، وعكرمة ، والضحاك وغير واحد:( فأتوهن من حيث أمركم الله ) يعني:طاهرات غير حيض ، ولهذا قال تعالى:( إن الله يحب التوابين ) أي:من الذنب وإن تكرر غشيانه ، ( ويحب المتطهرين ) أي:المتنزهين عن الأقذار والأذى ، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض ، أو في غير المأتى .