[ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم] اللغو من الكلام:ما لا يعتد به ، ولا يصدر عن فكر وروية . وأصله من لغا الطير وهو صوت الطيور الذي لا يفهم منه شيء ويظن الإنسان أنه لا يقصد به شيء ، وقد يطلق اللغو على الكلام القبيح الذي ينبغي ألا يعتد به ، ومن ذلك قوله تعالى:[ لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا 35]( النبأ ) وقوله تعالى:[ و إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه . . .55]( القصص ) وقوله تعالى:[ و إذا مروا باللغو مروا كراما 72]( الفرقان ) .
و إذا كان اللغو من الكلام ما لا يعتد به ولا يورد مورد الروية والتفكير ، فلغو اليمين ما لا يعتد به ولم يصدر عن روية وتفكير . وقد روي في الآثار صور لأيمان اللغو ، وأخذ بعض الفقهاء صورة منها وحصر اللغو فيها ، وأخذ غيره بصورة أخرى ، وقصر اللغو عليها .
و أرى أن كل صور أيمان اللغو الواردة عن الصحابة تدخل في معنى يمين اللغو التي كان من فضل الله على عبيده ، ورحمته بهم أن رفع عنهم إثمها ، ولم يجعلها موضع مآخذة ولا اعتداد ، فلا إثم ولا كفارة فيها .
و لنسرد هذه الصور بإسنادها ، وكلها يقع مثله في الحياة اليوم ، كما وقع مثله بين الناس في الماضي:
( أ ) ومن صور يمين اللغو ما رواه الزهري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:إن اللغو هو ما يكون بين القوم يتدارءون به في الأمر ، فيقول هذا والله وبلى والله ، وكلا والله يتدارءون في الأمر ، ولا تعقد عليه قلوبهم ، أي أن القوم يتحادثون أو يتذاكرون فتجري على ألسنتهم ألفاظ اليمين لا يقصدون بها يمينا ، فلا يقصدون توثيق قول ، ولا تأكيد خبر ، وقصر الشافعية اللغو على هذا .
( ب ) ومن صور اللغو ما روي عن عائشة أيضا أن اللغو هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق ، فيكون على غير ما حلف عليه ، أي أن الشخص يحلف على أمر يعتقد أنه الصدق ، ثم يتبين أنه كان مخطئا في اعتقاده ، فهذا لا يؤاخذ عليه رب العالمين ، ولا كفارة فيه . و بهذا فسر الحنيفة اللغو .
( ج ) ومن صور اللغو المروية عن ابن عباس يمين الغضب الذي يذهب فيه اللب ، ويفقد التقدير ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ( لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان ) وإن ذلك فيه بعض النظر ، وهو سليم إن قصد به الغضب الذي يفقد فيه الغاضب وزن الأمور .
( د ) ومن صور اللغو ما روي مرسلا عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قمينتضلون – يعني يترامون بالسهام – ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه ، فقام رجل من القوم فقال:أصبت والله ، وأخطأت والله ، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم:"حنث الرجل يا رسول الله! قال:"كلا ، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة "{[309]} . وهذه الصورة قريبة من الصورة الأولى أو الثانية .
و إنا نرى كما نوهنا من قبل أن هذه الصور كلها تدخل في معنى اللغو ، لأن معنى اللغو يفهم من مقابله ، وهو ما ليس بلغو ، وغير اللغو هو ما يقصده القلب قصدا صحيحا مبنيا على علم صحيح ، وهو موضع المؤاخذة . والله سبحانه عبر عن موضع المؤاخذة بأنه ما اكتسبته القلوب أي قصدته واتجهت إليه بعزيمة وعلم صحيح ، وكل الصور السابقة ليس فيها كسب للقلب مبني على إرادة وعلم صحيح ، فلا مؤاخذة ، فتكون لغوا .
و معنى عدم المؤاخذة أنه لا إثم في الآخرة ولا عقوبة في الحنث ، لأنه لا يمين حتى يكون منع ، وحتى تجب الكفارة ، وقد يقول قائل:إن الحلف بالله ولو لغوا وتكرار ذلك فيه بلا شك ما لا يتفق مع ما للاسم الكريم من إجلال وما يستحق من صون وتحفظ عند النطق ، وهو الأمر الذي اتفق عليه العلماء ، فكيف لا تكون مؤاخذة في لغو الأيمان ؟
ونقول في الإجابة عن ذلك:إنه بلا شك يجب أن يصان اللسان عن النطق بأيمان اللغو ما أمكن ، وإن ثمة إثما إذا كررها وأكثر منها في الجليل والحقير ، والصغير والكبير ، حتى صار اللفظ يجري على لسانه من غير احتياط ، لأن ذلك قد يؤدي إلى الحلف غير لاغ ، بل مع اكتساب القلب ، ولكن ذلك الاسم الذي جاء من الإكثار والتكرار والاستمرار ، ليس هو الإثم المنفي في الحلف الواحد ، فالإثم الثابت هو ما كان في الكل والاستمرار ، والإثم المنفي ما كان في الجزء والانفراد . على أن نفي المؤاخذة إنما هو ليقدم على الفعل من غير تحرج ، وذلك متحقق في كل أيمان اللغو ، سواء أكانت ممن يكثر أم كانت ممن يقل ، وإن كان ثمة لوم فهو موجه إلى الشخص في جملة أحواله وصفاته ، لا في ذات اليمين منفردة .
[ و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم] هذا موضع المؤاخذة ، وهو ما كسبته القلوب ، أي قصدته وأرادته . ولم يجيء عفو الخاطر ، أو لم يبن على علم ناقص . وما قصدته القلوب نوعان:
أحدهما – أن يقصد إلىفعل أمر أو الامتناع عن أمر مستحصدا عزيمته على ذلك ، موثقا تلك العزيمة بيمين الله سبحانه وتعالى .
و ثانيهما – أن يحلف على شيء كاذب مؤكدا قوله لسامعه ليعتقد السامع صدقه ، والحالف جازم بأنه كاذب ، وتسمى هذه اليمين يمين الغموس ، ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور ، والكاذبون في التقاضي .
و المؤاخذة في النوع الأول بوجوب الكفارة إن حنث في يمينه ، وفي النوع الثاني بالإثم المستمر ، حتى يتوب توبة نصوحا ، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على يمينه ضياع حق أو حكم بباطل . ولقد قرر الشافعي رضي الله عنه أنه تجب مع ذلك كفارة يمين ، ولم ير الحنفية فيها كفارة ، إنما الكفارة فيما يقبل الحنث ، وتلك لا تقبل الحنث .
و عبر سبحانه وتعالى عن القصد والتعمد بقوله تعالى:[ بما كسبت قلوبكم] وكسب القلب أدق وأخص من مجرد التعمد ، وذلك لأن كسب القلب معناه أن اليمين كان لها أثر فيه ، قد اكتسبه منها ، كما كسبت منه القصد والابتعاد عن معنى اللغو .
و الأثر الذي تنتجه الأيمان المقصودة يختلف باختلافها ،فإن كانت يمينا برة هي خير في ذاتها وموضعها ، والإصرار عليها لا ينتج إلا خيرا ، اكتسبت القلوب عزيمة نحو الخير ، وإصرارا عليه وإيمانا به ، فتشرق بنور الله ، وتستنير بذكر الله . وإن كانت اليمين فاجرة كاذبة في موضوعها لم يقصد الحالف فيها إلا تزكية الإثم ، فإن القلب يكسب منها شرا ، إذ ينكث فيه الإثم نكتة سوداء ، وبتكرارها تحيط بالقلب خطيئاته ، وتستغرقه سيئاته ، ويرين الله سبحانه وتعالى عليه بغشاوة كثيفة من الآثام .
و إن كانت اليمين غير فاجرة ، ولكن الإصرار على موضوعها فيه منع للخير ، يكون الكسب شرا إن أصر عليها ، ويغفر الله إن اتخذ السبيل الذي يكون به تحلة الأيمان ، وهو الكفارة السهلة الميسرة لكل إنسان .
هذا بعض ما يشير إليه التعبير الكريم السامي [ بما كسبت قلوبكم] .
[ و الله غفور حليم] ذيل الله سبحانههذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو ،و لبيان أنه سبحانه يأخذ عباده بالرفق ، ويسهل لهم سبيل العودة إلى الجادة المستقيمة إن حادوا عنها ، وتنكبوا سبيل المؤمنين ، ويرشدهم إلى ما يخرجون به مما يلقون بأنفسهم فيه من أقوال وأفعال ، فهو يبين طريق التحلل من الأيمان إن حلفوا ليتركوا خيرا ، أو ليرتكبوا شرا ، وهو بحلمه وتدبيره وحكمته يبين لهم الحق والسبيل إليه ، وإن سبقت الأيمان محاجزة دون الخير طلب إليهم ألا يستمسكوا بها ويفعلوا الخير .
و أن رحمة الله سبحانه وتعالى في الأيمان وغفرانه وحلمه قد بدا في الإعفاء من يمين اللغو ، وعدم اعتبارها ، وفي المؤاخذة على ما تكسبه القلوب مع تسهيل العودة إلى فعل الخير ، وفي بيان التحلل من اليمين إن حالت بين صاحبها والبر والتقوى والإصلاح بين الناس .