[ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر] هذه إحدى الأيمان التي لو استمسك بها الحالف كانت محاجزة ممانعة دون البر والتقوى ، فهي من جهة تطبيق عملي للحكم الذي قرره العلي القدير في قوله تعالى [ و لاتجعلوا الله عرضة لأيمانكم] ، ومن جهة ثانية هي بيان لحكم حال تعرض في أثناء العشرة الزوجية ، وذلك جزء من موضوع الأسرة الذي ابتدأه سبحانه بقوله:[ و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير . . .220]( البقرة ) أو بقوله تعالى:[ و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن . . .221] ( البقرة ) على حسب الاختلاف في معنى الأسرة من حيث العموم والخصوص .
و الإيلاء مصدر آلى يؤلى بمعنى حلف ، وخصه الأصفهاني بالحلف على التقصير في الأمر فقال:( حقيقة الإيلاء والألية الحلف المقتضي لتقصير في الأمر الذي يحلف عليه ) .
و قد خص في الشرع بالحلف على الامتناع عن القرب من امرأته ومسيسها ، وكان ذلك التخصيص مشتقا من هذه الآية:[ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر] .و التربص الانتظار ، والترقب ، ومعنى الجملة الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل للذين يحلفون ويجعلون موضع حلفهم الابتعاد عن نسائهم وتجنبهن متجنين عليهن ظالمين ، تربص أربعة أشهر ينتظروها ، والله يرقبهم فيها ، وحكم الله يترقبهم ، فإطلاق التربص من غير أن يضاف إلى الحالفين ، ولا أن يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كان بمعنى الانتظار ، و هو من العبيد توسعة لهم ، ومن الله سبحانه وتعالىوشرعه ، ترقب لهم حتى يقطع السبيل على ظلمهم إن طال الأمد وقست قلوبهم .
و تلك المدة التي وسع لهم فيها ليعودوا إلى رشدهم ، ويقلعوا عن غيهم ، وإلا حقت عليهم كلمة الله سبحانه وتعالى ، هي أربعة أشهر ، وبعدها يوضع حد لذلك الظلم والمضارة في العشرة الزوجية .
إن العشرة الزوجية أنس وإلف والتقاء روحي وجسدي بتحقيق ما يتقاضاه الطبع الإنساني ، والإنسال ، ليبقى الإنسان في هذه الأرض يعمرها إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمرا كان مفعولا ، فإذا جاء الرجل وهو القوام على الأسرة وهو رأسها وعمادها ، واشتط واتخذ المضارة والكيد ، بدل أن يؤلف القلوب ويؤنس النفوس ويربط بالمودة بينه وبين أهله ، إذا فعل ذلك فإن الجو يعتكر ، والأمور تضطرب ، وتحل البغضاء محل المحبة ، والمضرة محل المودة ، فوجب أن تنتهي هذه الحال إما بإعادة الود إلى صفائه ، وإما بفصم عرى الزوجية التي صارت لا تنتج إلا نكدا .
و إن من أشد مظاهر المضارة والمكايدة القطيعة في المضجع ، والهجر غير الجميل في المبيت ، فإنه أذى شديد ، لا لأنه امتناع عن قضاء الوطر ، بل لأنه يدل على البغض الشديد ، ولا شيء يفعل في نفس المرأة أشد من الإحساس بالبغض من العشير والضجيع الذي وهبت له نفسها ، وأعطته قلبها ، فكان منه ذلك النكر وذلك الهجر .
و لقد جعل الله سبحانه وتعالى أقصى غاية الصبر منها هو أربعة أشهر ، وبعدها يكون الفصم ، وإنهاء تلك الحياة الزوجية التي تحكمت بين الزوجين فيها البغضاء .
و لماذا كانت المدة أربعة أشهر ؟ لقد ذكر بعض العلماء أن تلك المدة أقصى ما تصبر عليه المرأة في المضارة بذلك الهجر غير الجميل . ولقد سأل عمر نساء عن مقدار ما تصبر المرأة عن زوجها ، فقالت بعضهن شهرين ، ويقل صبرها في ثلاثة ، وينفد صبرها في أربعة أشهر . ولقد كان عمر رضي الله عنه بعد هذا يسترد الغزاة ويستبدل بهم غيرهم بعد أربعة أشهر .
ثم إن التقدير بأربعة أشهر هو الذي يتفق مع جملة الأحكام الشرعية ، ذلك لأن الرجل أبيح له أن يتزوج أربعا من النساء ، وإذا كان في كل شهر يقرب نساءه مرة ، ويبادل بينهن ، فإن قسمها يكون مرة كل أربعة أشهر ، فكان من تناسق الأحكام الشرعية أن جعلت المدة التي تصبر فيها المرأة مع هذا الهجر أو تتصبر أربعة أشهر ، وذلك فوق أن الفطرة تقول:إن ذلك أقصى غاية الصبر على البعد المتعمد .
[ فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم] وإن تلك المهلة التي أعطيها الزوج يتربص فيها وينتظر ، والله يرقبه ، و الشرع يترقبه ، إنما هي لكي يقلع عن الظلم وتعود المودة إلى ما كانت عليه ، ويؤدم بينهما بحياة رفيقة يقطعانها ، فإن فاء إلى زوجه أي رجع إلى مضجعه الذي هجره ، وقرب من امرأته ومسها ، وحنث في يمينه ، كفر إذ جعل الله سبحانه وتعالى الكفارة تحلة الأيمان ، وعندئذ يغفر الله سبحانه ما كان منه ، ولذا قال سبحانه:[ فإن الله غفور رحيم] أي أن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم ما فرط منهم في جنب أهلهم ، والقطيعة التي كانت منهم ما داموا قد رأبوا الصدع وعادوا إلى رشدهم وطيبوا قلوب أهلهم ، وأقاموا المودة ، وملئوا البيت أنسا بعد أن ملئوه وحشة ، ويغفر لهم سبحانه حنثهم في يمينهم ، لأن الله سبحانه لا يريد إلا إصلاح حالهم ، ولا ينقص من عظمته وجلاله أن يحنث عبدفي قسمه ، ما دام الخير يريد والشر يجتنب ، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده في أن جعل لهم تحلة أيمانهم كفارة يستطيعونها وأن غفر لهم الحنث ، وأن دعاهم إلى ذلك الحنث رحمة بالأسرة من أن تتهدم أركانها ، وتتقطع أوصالها وتذهب المودة بين العشير وعشيره ، والأليف وأليفه ، ورحيم بهم في أن غفر لهم ما فرط من كل منهما في حق أخيه إذا أعادا المودة إلى سابق أمرها بعد أن كاد الهجر يقطعها .