[ و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم] هذا هو الفرض القاسي الغليظ بعد الفرض الرحيم الرفيق ، وهذه هي العقوبة التي وضعها الشارع الحكيم ، أي أنهم إن أصروا طول الأشهر الأربعة ولم يرعووا عن غيهم ، فإن الطلاق واقع لا محالة بحكم الشارع . وكان ذلك الاستمرار هو عزيمة الطلاق القاطعة ، وإرادته من الزوج حين صمم عليها ، لأن الشارع جعله عقوبة لفعله ، فمن لم يأت امرأته أربعة أشهر كاملة بيمين حلفها ، فإن طلاقها يقع ، وهو عقوبة ثابتة مقررة يعتبر الزوج قد اعتزمها وأصر عليها .
فهذه الآية الكريمة تفيد وقوع الطلاق عقوبة للزوج إن أصر على يمينه ولم يحنث فيه ، ولم يتحلل منها ويحسن عشرة أهله ، وهو في ذلك إنهاء لحال ظالمة للمرأة لا تقوم فيها حقوق الزوجية ، ولا هي حرة يختارها من يريد الزواج ، وهو منع للمرأة أن تتردى في مهاوي الرذيلة بسبب هذه المضارة ، بل يفتح لها الباب لتختار زوجا عادلا بدلهذا الظالم .
و قد يقول قائل:إن إيقاع الطلاق بحكم الشارع هو عقوبة ، فكيف تنسب عزيمة الطلاق إلى الزوج الذي حلف فعوقب بإيقاع الطلاق بغير إرادته ، ورغم أنفه ، مع أن من يعزم أمرا ويقطعه لابد أن يكون مختارا حرا ، وأن يكون الفاعل للأمر ينسب إليه على وجه الجزم واليقين ؟ والجواب عن ذلك السؤال من وجهين:
أحدهما – أن طائفة من العلماء قرروا أن الطلاق لا يقع فور انتهاء الأربعة الأشهر ، بل يمهل الحالف إما أن يفيء إلى أهله بأن يقربها ويحسن العشرة ، وإما أن يقع الطلاق عليه ، فإن لم يفئ واستمر مستمسكا بقوله ، فقد اختار الطلاق واعتزمه حقا وصدقا ، وأراده عن بينة وعلم ، ولا ينفي تلك العزيمة أن يوقعه القاضي ، أو يوقعه هو ، لأنه باشر سببه واختار الطلاق وأصر عليه ، وذلك هو قول طائفة من الصحابة والتابعين ، وقول مالك والشافعي وأحمد والليث وإسحاق بن راهويه ، وأبي ثور ، وداود الظاهري .
و أما قول أبى حنيفة رضي الله عنه فهو أن الطلاق يقع بانتهاء الأربعة الأشهر ، والفيء إنما وقته في الأربعة الأشهر ، فلا زيادة فوقها بنص الشارع ، وحينئذ يقال كيف اعتزم الطلاق وهو لم يوقعه ؟ وحينئذ يكون الجواب هو:
الوجه الثاني – أن هذه العقوبة حتمية بأمر الشارع أعلنها دفعا للظلم ، أو منعا لاستمراره ، أو حملا على العشرة الحسنة ، ويجب أن يضعها الزوج الحالف نصب عينيه طول مدة الإيلاء ، وأن يعرف أنها نتيجة لازمة لاستمراره عليه ، فإن أصر عليها من بعد ، فقد ارتضى الطلاق وعزمه ، وكيف لا يقال أنه اعتزم الطلاق من استمر أربعة أشهر مصرا على الامتناع الظالم وهو يعرف أن نتيجته الطلاق الحتمي ؟ وكيف يعطى فرصة أخرى من ترك فرصة أربعة أشهر ؟
و الطلاق في هذه الحال هو عقوبة عادلة ، لأنه من جنس الجريمة ، وهي نتيجة طبيعية لمن يظلم زوجه في العشرة الزوجية ، وهو باب الفضيلة ، إذ يمنع الزوج من أن تتقحم في الرذيلة .
و الطلاق الذي يقع يكون رجعيا عند الأئمةالثلاثة ، ودليلهم أن كل طلاق رجعي إلا ما ورد النص بأنه بائن ، وليس منه ذلك الطلاق ، وعلى هذا يكون له الرجعة في العدة ، وقد روي عن مالك رضي الله عنه أنه اشترط للرجعة أن يفيء إلى أهله ، فلا تتم بمجرد القول ، بل لابد من الدخول ، وقال أبو حنيفة:الطلاق بائن لأنه دفع للضرر ، ولا يتحقق إلا بالبينونة ، وإلا كان تمكينا للزوج من معاودة الظلم .
وقد أشار الله سبحانه إلى غضبه وعقوبته إن عزم الطلاق ، فقد جعل جزاء الشرط كونه سميعا عليما ، إذ قال:[ و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم] أي أن الله سبحانه وتعالى سميع إلى ما كان من الزوج الحالف ، قد سمع يمينه التي لم يرد بها خيرا ، وكلامه الذي لم يرد به إلا ضرا ، عليم بما وقع منه من مضارة وإيذاء ، وأنه لم يحسن العشرة الزوجية ، ولم يحسن الفراق ، فإنه لم يسرحها بمعروف ، بل تركها هملا حتى أنقذها الله من ظلمه بحكمه العادل الحاسم الرحيم . وإن الله سبحانه إذا كان عليما بما وقع ، سميعا لما قيل فإنه لابد يوم القيامة مجاز الإحسان إحسانا والسوء سوءا . والطلاق ليس العقوبة الكاملة ، إنما العقوبة الكاملة يوم الجزاء الأوفى ، وعندئذ تجزى كل نفس بما كسبت ، وإلى الله مرجع الأمور .