{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وتأتي كلمة الرحمن لتخفف من تأثير الصفة العظيمة التي تضغط على المشاعر ،في ما توحي به من رهبة وروعة وقوة ،عندما يقف الإنسان أمام خالق السماوات والأرض ،لتكون صفة الرحمة موحية بالانفتاح الحميم على الله ،بحيث يحس الإنسان أمام الله بالقرب من رحمة الله ولطفه ورضوانه .
والاستواء على العرش ،كناية عن الاستيلاء على السلطة ،في ما تمثله كلمة العرش من الموقع الأرفع والمقام الأعلى الذي يجلس عليه صاحب السلطان ليحكم من خلاله ،وهذا رمز للملك .وهذا المعنى ليس مقصوداً بذاته في معناه المادي حتى بالنسبة إلى صاحب الملك في الدنيا ،فإذا قيل إن الملك قد جلس على العرش ،فإنهم يريدون به استيلاءه على السلطة ،كما أن ذلك مستحيل بالنسبة إلى الله ،باعتبار أنه ليس كمثله شيء ،فلا يمكن أن يكون جسماً ،أو يحتويه مكان ،وهذا ما ورد به الحديث عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) في ما رواه عنه الصدوق في كتاب التوحيد ،قال في حديث طويل: «قال السائل: فقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال أبو عبد الله ( ع ): بذلك وصف نفسه ،وكذلك هو مستولٍ على العرش ،بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملاً أو حاوياً له ،ولا أن يكون العرش محتازاً له ،لكنّا نقول: هو حامل للعرش وممسك العرش ،ونقول في ذلك ما قال:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالأرْضَ} » [ البقرة:255] .
وإذا كان العرش يمثل في مضمونه الكنائي الموقع الذي يطل على الكون كله ،فإن الاستواء عليه يمثل الإشراف على مواقع السلطة كلها ،من صغير الأمور وكبيرها ،وقريب الأشياء وبعيدها ،فليس شيء أقرب إليه من شيء ،وكانت نسبة الأشياء إليه على حد سواء .وقد لا يكون هناك منطقة كونية تسمى بالعرش ،ولكن ليس من الضروري أن تكون الآية ناظرة إليها ،لأنها تلتقي بالجانب المعنوي منها ،لا بالجانب المادي .
ولعل مثل هذا الاستيحاء الكنائي في الآية لا يدخل في باب التأويل الذي يذهب بعض الناس إلى ضرورة إبعاد القرآن عنه ،لأن ذلك يؤدي إلى جواز تأويل جميع معارف الدين وأحكام الشرع ،وهو قول الباطنية ،بل إن ذلك يندرج في الفهم البلاغي القرآني الذي لا يقتصر على حمل الألفاظ على معانيها اللغوية الحقيقية ،بل يتسع للمعاني المجازية الواردة على طريقة الكناية والاستعارة ،على أساس وجود بعض القرائن العقلية واللفظية التي تصرف اللفظ عن ظاهره ،فتكون المسألة من باب رد المتشابه إلى المحكم ..فإذا كان العقل يحيل فكرة جسمية الله وخضوع أفعاله لما يخضع له خلقه في أوضاعهم المادية ،وإذا كان القرآن يؤكد أنه ليس كمثله شيء ،سبحانه وتعالى عما يصفون ،فإن ذلك يؤكد المعنى الكنائي الجديد ،في إرادته من اللفظ ،والله العالم .