..وفي هذا الجو الرسالي الروحي الذي يرعاه الإيمان بالتوحيد وتتعهده الرسالات بالوحي ،ويطل عليه الله بالربوبية المطلقة ،التي تربط بين الناس بعبوديتهم لله ،وانقيادهم إليه ،ليشعروا بأنهم يتوحّدون به ،ويجتمعون باسمه ،ويتحركون نحو الهدف الواحد في دنياهم وآخرتهم ،وهو عبادته التي هي المظهر الحيّ للتوجّه إليه ،والعمل بما يرضيه ،والبعد عمّا يسخطه ،في ما يفرضه ذلك من تنفيذ إرادته في أمره ونهيه للحصول على رضاه .
...في هذا الجوّ العابق بالروحانية ،المتحرك بالمسؤولية ،السائر مع الرسل في خط الرسالات التي تلتقي ببعضها البعض من خلال وحدة الفكرة والمفاهيم ،والمناهج ،والأهداف ،بعيداً عن التفاصيل التي تفرضها طبيعة الزمن ،وتستهلكها مراحل الحركة ،فتنطلق الوحدة من إحساس الإنسان العميق بإنسانيته ،لينطلق البشر كلهم من موقع الوحدة في العقيدة ،وفي التصور ،وفي الحركة ،في الدائرة الإنسانية الواسعة ،التي تحتوي كل الدوائر الصغيرة في دائرتها ،في نطاق التصور الشامل الذي يرى في العائلة والقبيلة والقومية والإقليمية مجرد خصائص في النسب والجغرافيا والتاريخ ،لا تتحكم في الجوهر الأساسي من ذات الإنسان وحقيقته ،بل تنوّع له الملامح التي تغني التجربة ،وتطوّر الوحدة وتبعث فيها المزيد من الاختلافات الفكرية والعملية التي تعطي الحياة الإنسانية حيويةً وانفتاحاً ووسيلةً غنيّةً تدفع نحو التعارف واكتشاف الخصوصيات هنا وهناك .
إنها وحدة الإنسان من خلال وحدة الله ،كما توحي به وحدة العبادة أمام وحدة المعبود ،فهي تنطلق من ذاتيتها ،لا من العوامل الطارئة عليها ،فالكل عباد الله ،في ما تختزنه شخصياتهم من سرّ العبودية لله المنطلقة من معنى المخلوقيّة فيهم ،في حاجتهم إليه في كل شيءٍ ،وما يوحيه ذلك من إذعان بربوبيته المهيمنة على الوجود كله في عمقه ،وامتداده ،وشموله ،وفي كل تفاصيله .
وهذا ما يريد الله أن يثيره في الناس لكي يلتقوا ويجتمعوا ويتعارفوا ويتعبّدوا إليه من موقع الوحدة في العبادة التي تحرك فيهم الإحساس بالمسؤولية في القيام بواجباتهم في دوائرهم الصغيرة التي تتصل بالدائرة الكبيرة ،لئلا ينغلقوا على خصوصياتهم ،بل يرون العموم في الخصوصية ،والشمول في الحدود .
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} التي توحي بإنسانيتكم في الخصائص والمعاني والآفاق الموحّدة ،حتى في دائرة التنوع ،{أُمَّةً وَاحِدَةً} في ما تعنيه من الفكر الواحد ،والخط المشترك ،والهدف الموحد ،فلا تجعلوا الإنسانية حالةً طارئةً ،ليكون الذاتي فيكم هو العائلية أو الإقليمية أو القومية ،لتجعلوا ذلك أساساً للانقسام والتمزُّق ،بل انطلقوا فيها من مواقع الإنسانية التي تذكركم بالوحدة التي تلغي كل إحساس بالبعد أو التنافر ،أو الفرقة والخلاف .وفي ضوء ذلك ،نعرف أن الوحدات الصغيرة في الدائرة الإنسانية الشاملة لا تخضع للإلغاء المطلق في نظرة الإسلام إلى التنظيم الاجتماعي ،بل يعمل الإسلام على أن يجعل لها دوراً محدداً في حركته ،لتتحول إلى نوع من الإحساس الذاتي بها على مستوى العاطفة والشعور والخصائص القريبة ،بعيداً عن كل تعصب أو انغلاق ،ليتربّى الإنسان على الخروج من دائرة ذاته إلى دوائر تتسّع في حالة من الانفتاح الفكري والروحي والعملي ،على أكثر من أفق ...فهي ليست عنواناً لمنهجٍ فكريّ يختلف الناس من خلاله ،بل هي عنوان لخصائص تتنوّع في حياتهم من أجل أن يكتشفوا جانب اللقاء في مواقع الفراق ،وطبيعة الوحدة في مجالات الانقسام .
{وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} لتكتشفوا في وحدة الإنسانية ،وحدة الخالق ،لا ليتحوّل التوحيد إلى مجرد حالةٍ ذهنيةٍ في التصور ،بل ليكون حالةً روحية في العمق الإنساني في حركة العبادة التي تعني التوحُّد في المنهج والمسؤولية ،من خلال ما تعنيه كلمة العبادة لله الواحد الذي خلقهم بقدرته ،ورعاهم برحمته ،وأحاط بهم بعلمه ،وغذّاهم بنعمه ...وهكذا تتوحّد العبادة في الخالق لتتوحّد الحياة في المخلوق ،وليتوحّد المخلوق في حركة الحياة .