وبلغ موسى مبلغ الشباب وكان قويّ الجسد ،في عضلاته قوّةٌ وفي إرادته صلابة ،وجاءت التجربة الأولى التي دخل فيها الصراع الجسدي وتركت تأثيراً بالغاً في عمق شخصيته ؛{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} وهي مصر ،في الظاهر ،{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} وذلك عندما يستريح الناس ويدخلون إلى بيوتهم ليسكنوا إلى أنفسهم وأهاليهم ،فتخلو الشوارع والأزقة من المارّة وذلك في وقت الظهيرة ،أو وقت دخول الليل{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ} من بني إسرائيل{وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} من الأقباط ،وكانا يتقاتلان{فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} لينصره عليه{فَوَكَزَهُ مُوسَى} وذلك بأن ضربه أو دفعه عنه بجمع الكف{فَقَضَي عَلَيْهِ} من دون أن يكون قاصداً لقتله ،لأنّ همّه الكبير أن يدفعه عن الذي استغاثه ،ويخلِّصه من بين يديه ،كما هو ظاهر الاستغاثة التي توحي بوجود حالةٍ من الخطر ،أو الألم الشديد .وفوجىء موسى بالنهاية القاسية الصعبة ،وأدرك نتائجها السلبية على موقعه في البلد ،وحريته في الحركة .
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الذي يغري بين الناس بالعداوة والبغضاء ،ويدفعهم إلى التقاتل الذي يؤدي إلى إزهاق الأرواح .وقد لا تكون الإشارة إلى قتل القبطي ،بل إلى طبيعة العمل الذي دخل فيه ناصراً لا معتدياً ،لأن الظاهر أن الإسرائيلي كان في موقع المعتدى عليه ،على أساس الواقع الاجتماعي الذي يجعل بني إسرائيل في الطبقة السفلى ،بينما يضع الأقباط في الطبقة العليا التي تضطهد مَنْ دونها ،وتنظر إليها نظرة استعلاء وتتعامل معها بأساليب التعسف والاحتقار والإذلال ...وهكذا كانت نظرة موسى إلى طبيعة العمل القتالي في الحالات الفردية بأنه من عمل الشيطان ،بعيداً عما إذا كان الحق لهذا الفريق أو ذاك ،لأنه على أيّ حال يمثل العمل الذي يؤدي إلى بعض المشاكل الخاصة أو العامة التي تربك السلامة العامة للمجتمع كله في تأثيرها على علاقات الناس ببعضهم البعض{إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} لأن دوره هو إثارة المشاكل التي تؤدي بالناس إلى الدخول في المشاحنات ،وتبعدهم عن الله الذي يريد للحياة أن تقوم على أساس المحبة والعدالة والسلام ...وبذلك كان موقعه منهم هو موقع العداوة والإضلال ،ما يفرض عليهم أن يواجهوه من هذا الموقع الذي يحتويهم بمشاكله وأضاليله .