{قَالَ رَب إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وعاد موسى إلى ربه ،وقد شعر بخطورة ما قام به ،ولكن هل كان يشعر بالذنب لقتله القبطي باعتبار أن ذلك يمثل جريمة دينيةً في مستوى الخطيئة التي يطلب فيها المغفرة من الله ؟أو أن المسألة هي أنه يشعر بالخطأ غير المقصود الذي كان لا يجب أن يؤدي إلى ما انتهى إليه ،ما يجعله يعيش الألم الذاتي تجاه عملية القتل ،لأنه لا يريد أن يبادر إلى القتل حتى لو كان المقتول عدوّاً له ،إذا كان يستطيع تفادي ذلك ؟؟
إننا نرجح الاحتمال الثاني ،لأن موسى لم ينطلق في المعركة من موقعٍ عدوانيٍّ ذاتيٍّ ،لأنه لا يجد أية ضرورة ،أو أيّ مبرر ،للدخول في معركةٍ مع الأقباط في وعيه العقلانيّ لطبيعة التوازن في القوى الذي كان لا يسمح له ولا لغيره أن يحلّ المشكلة القائمة في مجتمع بني إسرائيل ،ولذا لم يكن من همّه أن يدخل في المعركة ،بل كان كل همّه أن يدافع عن الإسرائيلي ويخلّصه من بين يدي القبطي الذي كان يريد أن يقتله ،كما يبدو ،وبهذا لم يكن في الأمر جريمة ،بل كان الدخول شرعياً ،ولم تكن النتيجة مقصودةً له ،ولكنه كان يفضل أن لا يحدث ما حدث .وبذلك كان يرى في ذلك نوعاً من الذنب الأخلاقي أو الاجتماعي الذي يحسُّ بالعقدة الذاتية منه .
وعلى ضوء هذا ،كان التعبير بأنه ظلمٌ للنفس تعبيراً عن الحالة الشعورية أكثر مما كان تعبيراً عن حالة المسؤولية ،وربما كان تعبيراً عن القلق من النتائج الواقعية السلبية التي يمكن أن تترتب على ذلك في علاقاته الاجتماعية بمحيطه في ما يحمله من أخطار مستقبلية على شخصه بالذات .أمّا طلب المغفرة من الله ،فقد يكون ناشئاً من الرغبة الروحية العميقة للإنسان المؤمن ،أن يضع أعماله بين يدي الله حتى التي لا تمثل انحرافاً عن أوامره ونواهيه ،بل تمثل نوعاً من الخطأ الأخلاقي المبرّر بطريقة ما ،ليحصل على لمسة الرحمة الإلهية العابقة بالحنان والعطف ،فيبلغمن خلال عصمته لهالكمال في سلوكه ،والتوازن في أخلاقه ،ما يجعل من المغفرة لطفاً في توازن الشخصية لا عفواً عن ذنب .وهكذا كان اللطف الإِلهي بموسى( ع ) في ما يعلمه الله من حاله في ظرفه الواقعي مما يحقق له الكثير من العذر في حساب المسؤولية ،{فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي تتحرك مغفرته من عمق رحمته لتفيض على الإنسان الراجع إليه بكل خير وإحسان .