مناسبة النزول:
قال صاحب مجمع البيان: «نزلت في رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع ،عن ابن عباس .وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين ويخالطونهم ،عن مجاهد »
في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من الاستسلام للثقة الساذجة بالفئات الأخرى التي تكيد للإسلام والمسلمين ،وتحمل في داخلها الحقد والعداوة من موقع العقدة الحاقدة ،وذلك بالكشف عن الخصائص الذاتية لهؤلاء في مواقفهم السلبية ضدَّ الإسلام وأتباعه .والظاهر أنَّ المراد بهم اليهود ،فهم يعملون على الإضرار بالمسلمين ويجتهدون في إثارة كلّ عوامل الفساد والنقصان التي تحجب عنهم الرؤية الواضحة للأشياء ،ويتمنون لهم التعب والمشقة في مواجهة قضايا الحياة ،وتتفجّر صدورهم بالحقد الكبير الذي يتجه نحو التدمير ،وتنطلق ألسنتهم بكلمات البغضاء والعداوة التي يوجهونها للمسلمين عندما يتحدّثون عنهم ...ولا بُدَّ للمسلمين من أن يعوا ذلك كلّه في حركة وعي عميق راصدٍ للواقع بعيدٍ عن السذاجة في تقييمه للأشخاص والأشياء ،فلا يفوته شيءٌ من الملاحظة ،ولا يغيب عنه صفة من الصفات السلبية فيمن حوله ،فإنَّ اللّه قد بيّن لهم الآيات التي يتمكنون من خلالها التمييز بين الأشياء التي تنفعهم والتي تضرّهم ،من أجل أن يركّز أقدامهم على الأرض الصلبة ويواجهوا الواقع من منطق العقل الذي يرصد ويتأمّل ويفكّر ...
ثُمَّ يدخل الأسلوب القرآني في عملية مقارنة بين المشاعر الطاهرة التي يشعر بها المسلمون تجاه الآخرين الذين يخالفونهم في الرأي ،وبين المشاعر الخبيثة التي يشعر بها الآخرون ضدَّهم ؛فالمسلمون يتحرّكون من موقع محبّة النَّاس الذين يعيشون معهم في الحدود التي رسمها اللّه لهم ،فإذا لم يصل الصراع إلى نتيجة ،كان المجال واسعاً للتعايش القائم على التوازن بين مصلحة الحياة وبين احترام الإنسان في تحمّل مسؤوليته في الحدود التي لا تمثِّل ضرراً كبيراً على حركة الحياة ،وهذا ما تدل عليه المجتمعات غير الإسلامية التي استطاعت العيش مع المجتمعات الإسلامية بكلّ احترام وعدالة ومحبّة في ضمن المواقع الإسلامية القانونية المنفتحة .
أمّا الآخرون من اليهود وغيرهم ،فإنَّ الغالب فيهم هو الشعور بالحقد والبغض للمسلمين ،فهم لا يحبّونهم ولا يتعاطفون معهم ،لأنَّهم لا يؤمنون بالمقدسات الإسلامية من الكتاب والنبيّ وغيرهما من الحقائق الإسلامية ،بينما يؤمن المسلمون بالكتاب كلّه في ما أنزله اللّه على أنبيائه من لدن إبراهيم ( ع ) إلى محمَّد ( ص ) .فهم لا يتعقّدون من شخصية أيّ رسول ،بل يؤمنون برسالته في مواقعها التي حدّدها اللّه من الزمان والمكان ،فلا يتجاوزونها إلى أبعد من ذلك ،ولا يقفون موقفاً سلبياً من أيّ كتاب من إنجيل وتوراة وغيرهما ،وإن كانوا يتحفّظون في بعض النصوص التي وقع فيها التحريف .وإذا التقى هؤلاء مع المؤمنين ،أعلنوا لهم الإيمان والانسجام مع خطّ الالتزام ،وتظاهروا بكلّ ما يتظاهر به المؤمنون ،وإذا خلوا إلى بعضهم البعض وملكوا حريتهم في التعبير عن حالتهم النفسية المعقّدة عضّوا أناملهم من الغيظ لما يعيشونه من مشاعر الحقد للمسلمين ...
وهذه طريقة في التنفيس عن العقدة الداخلية السلبية عندما تقف الظروف حائلاً بين الإنسان وبين الوصول إلى تفجير غيظه على صعيد الواقع العملي .
ولكن اللّه سبحانه يواجههم بأنَّ هذا الغيظ سوف يتصاعد حتّى يدمّر أصحابه ،لأنَّ المسيرة الصاعدة للإسلام في قوّته وانتصاره سوف تفوّت عليهم الفرصة التي يستطيعون من خلالها التنفيس عمّا بداخلهم من حقدٍ ورغبةٍ في التدمير ؛ويذكرهم بأنَّه عليم بذات الصدور فلا يخفى على اللّه من أمرهم شيء .
ثُمَّ يواجه المسلمين بمشاعر هؤلاء تجاه الأوضاع السلبية والإيجابية في داخل الحياة في المجتمع الإسلامي ،فإذا واجهوا انتصاراً وخيراً وبركةً في ذلك المجتمع قابلوه بالألم والسوء ،أمّا إذا واجهوا الشر الذي يصيب المسلمين في أنفسهم ودنياهم ،فإنَّهم يواجهونه بمشاعر الفرح والسرور ،ولكن اللّه يُخاطب المسلمين بأنَّ ذلك لن يضرهم شيئاً إذا وقف المسلمون في مواقعهم المتقدّمة ،وقابلوا التحدّيات والصعوبات بالصبر الواعي المنفتح ،وبالتَّقوى التي تجعلهم يقفون عند حدود اللّه في العقيدة والعمل ،فإنَّ اللّه محيط بما يعملونه ،عالِمٌ بكلّ أسرارهم ،فلا يخفى عليه شيء منها ،ويكشف لرسوله منها ما يحميه من كلّ سوء .
وعلى ضوء هذا الاستعراض الوافي للصفات السلبية التي يتّصف بها أعداء الإسلام ،فإنَّ القرآن يريد لهم أن لا يتخذوهم بطانة في ما يكلّفونهم به من أعمال وأدوار تتصل بالقضايا المصيرية للإسلام والمسلمين ،فيطلعون من خلال ذلك على الأسرار الخفية للواقع الإسلامي ،فيستغلون هذه المعرفة في الكيد والتآمر على الإسلام والمسلمين ...وهذا خطّ عام في حركة المجتمع الإسلامي مع الفئات الأخرى المعادية من أهل الكتاب وغيرهم ،بالمحافظة على دراسة الواقع الداخلي للأشخاص الذين يتسلّمون مراكز المسؤولية الكبيرة في القضايا الإسلامية العامّة .ولكن ذلك لا يمنع من التعايش والتعاون في الأمور الأخرى التي يمكن فيها توفير بعض الحماية للأسرار ،لأنَّها لا تتضمن سرّاً ولا تمثِّل خطراً من قريبٍ أو من بعيدٍ .
مشاعرهم ليست خالصة:
[ يا أيُّها الذين آمنوا لا تتَّخذوا بطانةً] واجهوا الواقع بمنطق الواعين الذين يتحرّكون في علاقاتهم على أساس الوعي العميق لانتماءات أصحابهم الذين تفرض عليهم الأوضاع العائلية والاجتماعية صحبتهم والتعامل معهم ،في دراسة شاملة لكلّ منطلقاتهم والتزاماتهم وخلفياتهم الدينيّة والسياسيّة ،لتكونوا حذرين في أحاديثكم معهم ،في أسراركم التي تتحدّثون بها معهم ،وفي أوضاع المسلمين التي تثيرونها معهم ،وفي الأجواء الداخلية والخارجية التي يُدخلونكم فيها من أجل مختلف التأثيرات السلبية والإيجابية مما يعملون على إثارته في ساحاتكم .
فإنَّ اختلاف الانتماءلا سيّما في حالات الصراع المريرقد يؤدّي إلى الاختلاف في النوايا والدوافع والمواقف ،الأمر الذي قد يكون موضع استغلال للعلاقات الحميمة من قِبل أيّ طرف ضدَّ الطرف الآخر للإساءة إلى فريقه لحساب الفريق الآخر .
[ من دونكم] من هؤلاء الذين يختلفون معكم في الإسلام على مستوى الانتماء إلى الدِّين الآخر ،أو إلى الخطّ الآخر ممن تخوضون معهم الصراع الحادّ على جميع المستويات أو على مستوى انتمائهم الإسلامي الظاهري مع استبطانهم الكفر ،فلا تدخلوهم في الأجواء الخفية التي يتحرّك فيها الواقع الإسلامي الداخلي ،ولا تفسحوا لهم المجال ليكونوا في المواقع المتقدّمة من الساحة الإسلامية في الوظائف التي توظفونهم فيها ،والأماكن التي تضعونهم فيها بفعل علاقاتكم الخاصّة بهم ،[ لا يألُونَكُم خَبَالاً] فهم قد يظهرون لكم المحبة بطريقة شخصية ؛ولكنَّهم يخفون في أنفسهم العزيمة على الإيقاع بكم ،والإضرار بمصالحكم ،وإفساد أموركم ،وتوجيه عقولكم في اتجاه الغفلة والجنون الفكري والشعوري والسياسي ...لأنَّ الخطّة الموضوعة لديهم في مواجهة الإسلام تفرض عليهم السير في هذا الاتجاه .
[ وَدُّوا ما عَنِتُّم] فهم يحبّون لكم الوقوع في المشقة والعناء في حربكم وسلمكم ،فلا يريدون لكم الراحة في مشاريعكم الداخلية وفي أوضاعكم الخارجية ،ما يجعل الصداقة غير ذات موضوع لديهم أمام الشخصية الاجتماعية التي تفرض عليهم المحافظة على وجودهم وامتيازاتهم في هذا الجوّ الإسلامي الجديد الذي قد يُصادر بعض مصالحهم ويؤكّد انتصاره عليهم ،بحيث يؤدّي إلى التعقيد في حالاتهم النفسية وأوضاعهم الخارجية ،ف [ قد بدت البغضاء من أفواههم] من خلال ما يظهر من فلتات ألسنتهم المعبّرةتلقائياًعمّا يضمرونه في داخلهم ،لأنَّه من الصعب على الإنسانحتّى في حالات الحذرإخفاء ما يضمره في نفسه ،من خلال كلمة تنطلق هنامن غير شعورأو كلمة تقفز هنا في موقف انفصال أو نحوه ،فتلك بعض دخائل النفس وغوامض الشعور ،وهذا ما قرره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( ع ) في قوله: «ما أضمر أحدٌ شيئاً إلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » .
[ وما تُخْفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ] من الحقد الدفين الكامن في نفوسهم ،انطلاقاً من إحساسهم الذاتي الفئوي بأنَّكم قادمون لإلغاء مواقعهم المتقدّمة في امتدادهم الديني في ساحة الواقع ،وتحطيم عنصريتهم المعقّدة .
[ قد بيَّنَّا لكم الآياتِ] بما أظهرناه لكم من الدّلالات الواضحة على الخطّ الفاصل بين العدوّ والوليّ ،سواء على مستوى اختلاف الانتماء الديني أو اهتزاز الحالات النفاقية الشريرة ،ما يفرض عليكم الأخذ بأسباب الحذر في علاقتكم بهم ،والتحرّك من موقع الوعي في حركتكم معهم ،[ إن كنتم تعقِلون] فتتحرّكون في أوضاعكم وعلاقاتكم من قاعدة العقل الباحث عن أسرار الأشياء بما يكتشفه من حالة العمق العميق فيها ،ليدفع الإنسان إلى التحرّك في دائرة دفع الضرر وجلب النفع ،فإنَّ الإنسان السائر على هدى العقل لا يُخطئ طريقه غالباً ،ولا يلقي بنفسه في مواقع الهلاك .