نداء إلهي تحذيراً للمؤمنين من الأساليب الانهزامية:
وهذا نداءٌ جديد من اللّه للمؤمنين يستهدف إفراغ مشاعرهم من السلبيّات العاطفية الضاغطة التي تهيمن على الروح والفكر والوجدان ،فتنحرف بها عن الخطّ الإيماني الأصيل في التصوّر والشعور ،فتدفعها إلى الاستسلام لحالات الضعف التي تهزم مواقفها من ناحية نفسية قبل أن تنهزم في معركتها من العدوّ ،ولذلك أراد اللّه سبحانه أن يعيش المؤمن في مواقعه الإيمانية فكرياً وروحياً وعمليّاً ،فيظلّ في وعي دائم لمقتضيات الإيمان ،بعيداً عن الضغوط العاطفية السلبيّة ،فيرصد مشاعره في اتجاهاتها الإيجابية والسلبيّة ،ويُراقب الكلمات التي يسمعها في ما يختبئ في داخلها من خلفيّات خيّرة أو شرّيرة ،ويربط ذلك كلّه بالموقف الإسلامي في خطواته العملية في الحياة ،ليتعرف على مدى تأثير تلك الأشياء عليها في ما تستتبعه من اهتزازٍ أو ثبات .
إنَّ اللّه يثير ذلكفي ما نستوحيهفي هذا النداء الذي يكشف للمؤمنين بعض الأوضاع التي يعيشها الكافرون الذين يخوضون المعارك المنطلقة من حالات الغزو فيفقدون فيها بعض إخوانهم في المعركة ،أو يسافرون ويضربون في الأرض فيتعرّضون لبعض أخطار السفر فيموتون تحت تأثيرها ؛فإذا حدث ذلك كان ردّ الفعل لديهم أن يطلقوا التمنّيات الحزينة والافتراضات غير الواقعيّة ،فيقولون: لو كان هؤلاء الذين ماتوا عندنا ،فلم يخرجوا إلى الغزو وإلى السفر لظلّوا أحياءً ،لأنَّهم يبتعدون بذلك عن أسباب الموت ،كما ابتعدنا عنها فبقينا أحياء .وتتحوّل هذه الكلمات لديهم إلى مشاعر تتفاعل في وجدانهم وتملأ قلوبهم بالحسرة ،في ما أودعه اللّه في تكوين الإنسان من ارتباط المشاعر السلبيّة بالأفكار غير الواقعية البعيدة عن خطّ الإيمان .ويبتعد الإنسان من خلال ذلك عن الحركة المستقبلية نحو أهدافه الكبيرة ،وتتجمّد مشاريعه ،فيخاف من السفر وأخطاره إذا دعته المصلحة إلى ذلك ،فيتركه استسلاماً لحالة الخوف من الموت ،ويخشى من نتائج المعركة التي تفرض عليه حياته أن يخوضها ،فيبتعد عنها ويجلس في بيته مهزوماً ،خشيةً من الموت ،فتتجمّد أوضاعه تبعاً لذلك ...
إنَّ هذا النداء يحذّر المؤمنين الذين قد يعيشون في مجتمع الكافرين فيتأثّرون بأساليبهم العاطفية ،لا سيّما في حالات الألم الشديد ،فتتأثر بذلك مسيرتهم في الجهاد الذي يفرضه عليهم إيمانهم أمام التحدِّيات الدائمة الحاضرة والمستقبلة من قبل الكافرين ،ويفقدون حركة إيمانهم في الداخل ،فإنَّ المؤمن يعتقد أنَّ الحياة والموت بيد اللّه لا بيد الإنسان ،وأنَّ ظروف الموت وأسبابه ليست محصورة في نطاق الأخطار التي تواجه الإنسان ،بل ربَّما يموت الإنسان في حالة السلم وينجو في حالة الحرب ،وقد يخرج سليماً من قبضة الخطر ويقع صريعاً في حالات الاسترخاء ...وبذلك كانت القضية لدى المؤمن هي أن تكون حياته للّه ،وأن يكون مماته للّه من حيث طبيعة الهدف الكبير الذي يشمل حياته ،فلا مجال أمام ذلك للتراجع عن الخطر والابتعاد عن المعركة والاستسلام للانفعالات العاطفية التي تصيب الإنسان عندما يفقد حبيباً أو قريباً أو صديقاً ،بل هو الصبر والثبات والرضى بقضاء اللّه والشكر على نعمة الجهاد ،والفرح الروحي الذي يستشعره المؤمن في كلّ هذه الحالات بأنَّه تحت سمع اللّه وبصره ،فتهتز مشاعره أمام النظرة الإلهية الراحمة عند مواقف الطاعة المخلصة الممتدة في خطوات الإيمان .
[ يا أيُّها الذين آمنوا] الذين لا تزال الرواسب التاريخية في مجتمعهم الذي كان يتخبط في تقاليد الجاهلية ويتأثر بمفاهيمها ،تفرض نفسها عليهم بطريقةٍ لا شعورية ،أو تتحرّك في الأحاديث العامّة الخاضعة لأجواء الحزن في مشاعره السلبية في مواجهة الإنسان للجانب العاطفي في حياته المتأثّر بالمصائب الطارئة عليه التي تصيبه في أقربائه وأصدقائه وأحبائه ...أيُّها المؤمنون ،لا تتأثّروا بتلك الرواسب ،واندفعوا إليها بوعي الإيمان الحقّ المنفتح على سنّة اللّه في الحياة وحكمته في تقديره للأمور ،من حيث هو مالك كلّ شيء ،والمهيمن على الأمر كلّه ،لتطردوها من نفوسكم ،فلا تسقطوا أمامها ولا تتأثّروا بها بعيداً عن الخطّ الإيماني الشعوري والفكري والعملي ،و [ لا تكونوا كالذين كفروا] باللّه وابتعدوا عن وعي الحياة في كلِّ أحداثها المتنوّعة في حركة الآلام في واقع الإنسان في مسيرته في الدُّنيا ،من خلال تعقيداتها الكثيرة وتأثيراتها عليه ،فلم يتعمقوا في معناها من حيث ارتباطها بإرادة اللّه وقدرته وتخطيطه للنظام الكوني والإنساني في سننه في الكون والحياة والإنسان ،بل استغرقوا في الجانب الحسّي المحدود الذي يتطلّع إلى الأمور من جانب واحدٍ في الأفق الضيّق ،لا من جميع جوانبها في الأفق الواسع ،وهكذا واجهوا مسألة مصابهم بإخوانهم بهذا المنطق السطحي الانفعالي ،فتحدّثوا [ وقالوا لإخوانهم] الذين يلتقون معهم في النسب أو في النوع والخصائص القريبة ،والمراد بقولهم لهم ،هو الحديث عنهم لأجل التعبير عن تمنياتهم لهم بالأخذ بأسباب السلامة والتنديد باقتحامهم أخطار السفر والحرب ،كما لو كانوا أحياءً معهم [ إذا ضربوا في الأرض] وسافروا ...وابتعدوا في قطع المسافات الشاسعة للتجارة أو غيرها ،[ أو كانوا غُزّى] في ساحة المعركة الضارية ضدَّ الأعداء ،[ لو كانوا عندنا] مقيمين بيننا في حالة الدعة والأمن والاسترخاء والبُعد عن مواقع الأخطار [ ما ماتوا وما قتلوا] لأنَّ أسباب الحياة متوفرة لدينا ،وعوامل الخطر بعيدة عنّا ،ولذلك امتدت الحياة بنا بكلّ عناصرها ولذاتها .
وهكذا كانوا يتحدّثون بأسلوب المتمني اليائس الحزين الذي يتطلّع إلى الأحداث من مواقع انفعاله لا من موقع تفكيره ،ليوجه مشاعره نحو السقوط العاطفي ،فيتحوّل ذلك إلى حالة قريبةٍ من اليأس [ ليجعل اللّه ذلك حسرةً في قلوبهم] يجترونها في أحاديثهم الانفعالية .واللام هنا للعاقبة ،أي لتكون عاقبة ذلك الحسرة النفسية بدلاً من الطمأنينة الروحية في مواجهة البلاء على أسلوب قوله تعالى: [ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً] ( القصص:8 ) .
وفي هذا تحذير للمسلمين أن لا يقولوا هذا القول ،ولا يفكّروا بهذه الطريقة ،لأنَّها تبتعد بالإنسان المؤمن عن عقيدته ،وتملأ بالحسرة نفسه ،فيسقط بروحه أمامها ،وتعطل حركته نحو الجهاد في مواجهة الأعداء ،وتسقط طموحه في الوصول إلى المواقع المتقدّمة في الحياة [ واللّه يحيي ويميت] فهو الذي يملك أمر الحياة والموت من خلال سنته المتحرّكة من مواقع إرادته في خطّ حكمته وقدرته ،فقد يموت الإنسان في داره في حالة الأمن والدعة ،وقد يعيش الإنسان المتحرّك في مواقع الخطر في السفر الشاق والحرب الخطرة ،[ واللّه بما تعملون خبيرٌ] فهو المطلّع على كلّ أعمالكم في سرّكم وعلانيتكم ،وعليكم مراقبته في كلّ حركة أفكاركم ومشاعركم وأقوالكم وأفعالكم ،لتنسجموا مع إيمانكم الذي يحقّق لكم رضاه .