/م31
{قُلْ} يا محمد ،للذين تدعوهم إلى الله ليدخلوا في ساحة رحمته وغفرانه ،فينتقلوا من الكفر إلى الإيمان ومن الهدى إلى الضلال{أَطِيعُواْ اللَّهَ} الذي خلقكم ورزقكم ومنحكم الحياة في وجودكم الحي المتحرك ،وهو الذي يملك موتكم وبعثكم في يوم القيامة الذي يقودكم إلى الجنة في خط الطاعة{وَالرَّسُولَ} فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله ،وهذا هو الإيمان في الخط العملي ،فإنه ليس كلمةً تقال ،ولكنه إقرار بالقلب واعتراف باللسان وعمل بالأركان{فإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا عنك وعن دعوتك وتمردوا على الله وكفروا به ،فلا تلتفت إليهم ،واتركهم لضلالهم وكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم من قِبَلِك ،ولن يحصلوا على حب الله لهم لأنهم لا يفهمون عناصر الحب الحقيقي الظاهر ،لاسيما المنفتحة على حب الله{فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} الذين ابتعدوا عن الفطرة وعاشوا في متاهات الضلال ،ولم يعرفوافي أجواء حقدهمإلى الحب سبيلاً .
تلك هي بعض إيحاءات هذه الآيات في الأجواء العمليّة التي تتحرك فيها العاطفة المضادّة في مشاعرها المنحرفة ،والعاطفة الملائمة في أحاسيسها الطبيعية ،سواءٌ في ذلك في مسارها في حياة الناس أو في علاقتها بالله في النطاق الروحي والعملي .وبذلك نخرج بنتيجةٍ حاسمةٍ في انطلاقة الشخصية الإسلامية ،حيث لا تجزيئية ولا ازدواجية ولا انقسام ،بل هي الشخصية الواحدة التي يلتقي فيها الفكر بالعاطفة ،وتمتزج فيها العلاقات الفكرية والروحية بالمواقف العملية في خطّ العلاقات الإنسانية ،وتنطلق فيها المشاعر بالخطوط المتحركة في المجال الحياتي الذي يحكم الموقف والسلوك ،وتتحوّل علاقة الإنسان بالله إلى علاقة حبٍّ من نوعٍ جديد لا يخضع للانفعال الساذج ،بل يعيش مع الخط المستقيم الذي يواجه الإنسان بالنتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة .
التربية على حب الله
أمّا المعطيات التي يمكن الاستفادة منها في خطواتنا الإسلامية العملية ،فيمكن أن نلخّصها في نقاط:
1التأكيد على المؤمنين بأن الفواصل الفكرية ،تمثل عناصر أساسية في تكوين الشخصية وتميّزها ،وتخلق في داخل الإنسان جوّاً عاطفياً جديداً ،يحدد نوع العلاقات تبعاً لانسجامها مع الخطوط الفكرية وابتعادها عنها ،من دون أن يعني ذلك عقدةً سلبيّةً ضدّ اللقاء في المواقف المشتركة أو في المصالح المشتركة في المجتمعات المتعددة الاتجاهات ،لأن هناك فرقاً بين تحطيم الحواجز النفسية أمام الأفكار المتعددة ،وبين تحطيمها أمام المواقف الموحّدة ،فإن الأول يمثل ضياع خطوط الفكرة وتمييعها ،بينما يمثّل الثاني حركة الفكرة ومرونتها وإيجابيّتها في خطواتها العملية نحو الهدف الكبير في مراحله المتنوّعة .
2الاستفادة من الأسلوب القرآني الوعظي الذي لا يقدِّم الفكرة مجرّدة عن دلالاتها الإيمانية ،بل يحشد في داخلها وفي خطواتها ،كل الأجواء التي يلتقي فيها الإنسان بالله واليوم الآخر في أساليب تحذيرية وتصويرية تتنوّع فيها منابع الإيحاء وموارده أمام الترغيب والترهيب ،ما يجعل الفكرة في خطّها المستقيم أو المنحرف جزءاً من هذا الجو المليء بالروعة والرهبة ،فقد نجد أن مثل هذا الأسلوب يساهم في تحقيق هدفين:
الأول: أن تبقى الفكرة مشدودةً إلى أجوائها الروحية ،فلا تبقى مجرّد فكرٍ جامد يطرح القضية في ظروفها الموضوعية التي تبعدها عن مسارها الطبيعي ...
الثاني: أن تظل الفكرة في حالة حركةٍ إيجابيةٍ في داخل الشخصية المؤمنة ،فلا تتجمد في زاويةٍ من زواياها ،بل تتسع لتشمل كل الجوانب ،فتحرّك الفكر والمشاعر والخطى لتهزّهابعنفنحو الممارسة والمعاناة ،فتبعدها عن الاسترخاء والسلبيّة التي قد تصيب المؤمنين من خلال بعض النوازع الخاصة .
3الإيحاء بأن العلاقة بين الله والناس هي علاقة حبٍّ من نوعٍ جديد ،ومحاولة تربية الشخصية الإسلامية على أساس الحبّ لله ،بعيداً عن الأجواء الذاتية التي تستغرق في الأفكار والعواطف في ما يشبه الغيبوبة ،وقريباً من الأجواء التي تقترب بالإنسان من الأعمال التي تحقّق رضا الله ،الذي هو تعبيرٌ إيمانيٌّ عن محبة الله للإنسان .وفي هذا الاتجاه ،يمكن للتربية الإسلامية أن تصنع الشخصية الإنسانية الجديدة التي تهتز فيها المشاعر بالفكر والعمل ،قبل أن تهتزّ بالتنهّدات والتمنيات .
وربما يصبح ذلك طابعاً للعلاقات الإنسانية التي تربط الشخصية بالآخرين ،فتتحوّل إلى الروابط العملية الروحية بدلاً من الروابط العاطفية الذاتية ،ويتجه الإنسانمن خلال ذلكإلى علاقات أعمق وأقوى لا يحكمها المزاج بالانفعالات الطارئة ،بل يسيطر عليها العقل بالخطوات الهادئة الحكيمة .وفي هذا الجوّ ،يمكن للإنسان أن يشعر بأن الإيمان الواحد يستطيع أن يصنع العلاقات الأخويّة بين الناس الذين يجتمعون عليه ،كما أراده الله سبحانه في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [ الحجرات: 10] .