هذا هو الفصل الأوّل من فصول معركة الأحزاب أو الخندق ،التي كانت نتيجة مؤامرة مشتركة بين اليهود والمشركين ،فكان لليهود منها الإثارة والتشجيع والوعد بالاستفادة من مواقعهم المميزة في المدينة لإِكمال الحصار عليها بهدف الإطباق على النبي والمسلمين بالقوّة الساحقة القاضية التي تنهي أمر الإسلام كله .
وتتحدث بعض الروايات «أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب في جماعة من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ،خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة ،فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالوا: إنا سنكون معكم عليهم حتى نستأصلهم .
فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود ،إنكم أهل الكتاب الأوّل ،فديننا خيرٌ أم دين محمد ؟قالوا: بل دينكم خير من دينه ،فأنتم أولى بالحق منه ،فهم الذين أنزل الله فيهم{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} [ النساء:51] ،إلى قوله:{وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} [ النساء: 55] ،فسرّ قريشاً ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه ،فأجمعوا لذلك ،واتعدوا له .
ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان ،فدعوهم إلى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ،وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك ،فأجابوهم ،فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ،وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة ،والحرث بن عوف في بني مرّة ،ومسعر بن جبلة الأشجعي فيمن تابعه من أشجع ،وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد ،فأقبل طليحة فيمن اتبعه من بني أسد وهما حليفان أسد وغطفان ،وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم ،فأقبل أبو الأعور السلمي فيمن اتبعه من بني سليم مدداً لقريش »[ 1] .
وهكذا نرى كيف كانت الخطة تشتمل على جمع أكبر عددٍ من المشركين لمفاجأة المسلمين بهذا العدد الكبير ،للإِجهاز على كل مواقعهم في المدينة ،لإِسقاط الإسلام نهائياً في حلفٍ غير مقدس بين المشركين واليهود ،من خلال تخطيط يهوديّ .
وتأتي هذه الآيات لتثير أمام المسلمين ذكريات هذه المعركة في طبيعة التحدي الكبير الموجّه إلى الإسلام والمسلمين ،وفي طبيعة الضغط النفسي الذي عاشه المسلمون آنذاك ،وفي النتائج الأخيرة التي انتهت بالردّ الإلهي الذي جعل الخطة تسقط وتنتهي بهزيمةٍ مثيرةٍ للمعتدين .
إمداد الله المؤمنين بالريح والجنود
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} في ما تذكرونه من نعمه التي أغدقها عليكم في مسيرتكم الإيمانية في حمايته لكم من الأخطار الكبيرة المحدقة بكم من كل جانب{إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} من مختلف العشائر والجهات ،لتجهز عليكم{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} عاصفةً باردةً في ليلة شاتية لم يستطيعوا معها أن يتماسكوا ،فلم يستمسك لهم بناء ،ولم تثبت لهم نار ،ولم يطمئن لهم قدر حتى قال أبو سفيان: ما أنتم بدار مقام ،هلك الخف والحافر ،وهذه الريح لا يستمسك معها شيء{وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهي الملائكة التي كلفها الله بالمهمّات الخفية التي ساهمت في خذلان جيوش المشركين .
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} في ما يحيط به من أموركم الخفية والمعلنة ،فلا تغفلوا عن الإحساس الدائم برقابته ،وكونوا واثقين بحمايته ورعايته للمؤمنين .