كيف يريد الله لرسوله أن يعبِّر عن موقفه الحاسم في التزامه بخط الدعوة في عبادة الله بإخلاص ،وفي إسلامه أمره له ،وفي خوفه من عذابه ،أمام هؤلاء المشركين الذين يعبدون الأوثان من دون وعيٍ للمعاني الكامنة في ذلك ،من انسحاق إنسانيتهم تحت تأثير عوالم التخلف ،وسقوط مواقفهم في دائرة الجهل وأجواء الاستكبار الذاتي في نفوسهم ،ما يمنعهم من رؤية الحقيقة أو الالتزام بها ؟!
كان الموقف بحاجةٍ إلى صدمةٍ إعلانيّةٍ قويّةٍ ،يقف فيها النبي ليعلن موقفه الذاتي في عملية الاختيار ،ليصدم بذلك تردّد المتردّدين وعناد المعاندين ،عندما يخرج الموقف عن أجواء الجدال ،حيث يأخذ الجميع حريتهم في اللعب على الألفاظ والقفز على المواقف ،ونحو ذلك ممّا يبتعد فيه الحديث عن الجدّية الملتزمة ليتحول إلى موقفٍ للاختيار الحاسم ،كأسلوبٍ من أساليب التأثير النفسي القويّ من جهة ،ليوحي إليهم بأنه لن يتخذ غير هذا الموقف ،لأن هناك قوّةً ربّانيةً عظيمةً تفرضه عليه ،ولأن هناك قوّة فكريّةً عميقةً في داخله توحي له بذلك ،فلا مجال لأن يفكروا بأن هناك اهتزازاً في قرار الموقف لديه ليجرّبوا كيف يضغطون على نفسيته ،وكيف يقدمون إليه الطروحات القائمة على التسوية المعتمدة على أنصاف الحلول ليكون المطلوب منه أن يأخذ من الكفر شيئاً ،ومن الإيمان شيئاً آخر ،ليختارواهمبعد ذلك ما يأخذون به من الموقف .
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} فقد أراد الله لي أن ألتزم الإخلاص بعبادته ،لأكون النبيّ الذي يلتزم الخط الذي يدعو له ،كمسؤوليةٍ دينيّةٍ ذاتيةٍ ،تماماً كما أريد لكم أن تلتزموه من موقع هذه المسؤولية الموجّهة إليكم ،فليس الموقف موقف الدعوة التي لا يلتزمها صاحبها ،إنّما يوجهها إلى الآخرين بعيداً عن التزامه الذاتي ،بل هو موقف الرسالة التي تفرض مفاهيمها وخططها ومسؤوليتها على حاملها ،قبل أن يفرضها على الآخرين .