وهذا نداءٌ من الله الرحمن الرحيم ،لعباده الخاطئين الذين توغّلوا في الخطيئة ،أن لا يستسلموا لليأس ،وأن لا يبتعدوا كثيراً عنه ،وأن يفكروا في مواقفهم على أساس تصحيح الانحراف بالطريقة التي يرجعون بها إلى الله في خطٍّ عمليٍّ يلتقون فيه بخط الاستقامة في رحمة الله ومغفرته ...وهو النداء الحميم الذي ينفذ إلى أرواحهم ومشاعرهم ليهزَّها بالأمل الكبير ليستيقظ فيها الإحساسمن جديدبالله في التفاتةٍ روحيةٍ حميمةٍ وفي عودة إلى طاعته في مواقع رضاه ،وهذا ما يشعرهم بأن الله يلاحق خطاياهم بالرحمة والمغفرة عندما يعودون إليه ،كما يلاحقها بالعقوبة والشدّة عندما يصرّون على التمرّد عليه ...ثم يضع لهم الشروط العملية للإخلاص بالتوبة ،لئلا تكون مجرّد حالةٍ شعوريّةٍ كلاميَّى ،بل تكون نهجاً فكريّاً وعمليَّاً في حركة الشخصية الإنسانية التي تريد اللقاء بالله بقوّةٍ وإخلاص ،في آفاق التغيير من الجذور .
{قُلْ} يا محمد ،لهؤلاء الخاطئين الذين عاشوا في أوحال الخطيئة حتى كادوا أن يغرقوا فيها ،وابتعدوا عن الخط المستقيم حتى أوشكوا أن يستسلموا للضياع في متاهات الكفر والضلال ...،قل لهم كلمة الرحمة والمغفرة والحنان التي تحتوي كل مشاعرهم وتطلّعاتهم في الحياة:{يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} وتجاوزوا الحدود ،واستسلموا لليأس{لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} في الحياة ،لتعيشوا في إيحاءٍ يائسٍ بأن الوقت قد فات ،فلا مجال للعودة إلى الله ،لأن المسألة قد بلغت في التمرد والخطيئة مبلغاً لا يستطيع الإنسان فيه أن يواجه الله بالتوبة ،لكن الذنب مع الله يختلف عن الذنب مع الناس ،فقد يتعقد الناس من الذنوب التي يفعلها بعضهم ضد بعض ،فيحملون في داخل نفوسهم الحقد والأذى إلى المستوى الكبير الذي لا يسمح بقبول التوبة من المذنب ،أو العفو عنه ،لأن الحالة النفسية المعقّدة قد بلغت من التعاظم حدّاً كبيراً من التعقيد أحاط بالشخصية كلها ...أما الذنب أمام الله ،فلا يترك أيّ تأثيرٍ في ذاته المقدسة في مواقع التعقيد ،لأنه أعظم من ذلك ،فهو الله الذي لا تقترب الانفعالات من عظمته ،ولا يعرف الحقد مكاناً في مواقع قدسه ،بل كل ما هناك ،أنه يغضب على المذنبين بالمعنى العملي للحالة الغضبية الذي يبقى ويزول تبعاً للحكمة التي يراها في ذلك ،ولهذا فإن هناك واقعية أكيدة لمسألة التجاوز عن العقوبة في حركة المغفرة للذنب ،والرحمة للشخص على أساس ما يعرفه الله من المعاني الطيبة الكامنة في نفسه ،أو على أساس ملاحظة الظروف الضاغطة في طبيعة النوازع الذاتية أو في عمق الحركة المنطلقة من لهب الغريزة الحارّة ،أو على أساس إفساح المجال للإنسان ليعيد النظر في التمرّد على سلبيّات تاريخه من أجل بدايةٍ جديدةٍ لحركةٍ إيمانيةٍ جديدةٍ .وهكذا تنطلق القضية من مواقع المغفرة الواسعة والرحمة الشاملة في ما يتسع منهما للإنسان كله ،تبعاً لما يعلمه الله من الحكمة في ذلك ،على مستوى قضية الشخص أو قضية الحياة .
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} للتائبين من ذنوبهم ،فإن الظاهر أنَّ الآية تتحدث عن سعة المغفرة على أساس الدعوة إلى التوبة التي يعود فيها الناس إلى ربّهم ،وبذلك يكون جوّ الآية قرينةً على هذا التقييد ،فلا ينافي مضمونها الشامل للذنوب جميعاً ما جاء في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [ النساء:48] فإن الظاهر أن المراد في تلك الآية ،نفي المغفرة من دون توبة ،لأن المعروف أن التوبة تشمل الذنوب جميعاً حتى الشرك ،{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي سبقت رحمته غضبه ،ما يفسح المجال لعباده أن يتطلعوا إليها في الرغبة بالغفران لذنوبهم ،بحيث لا يشعرون باليأس من خطورة ذنوبهم التي وصلوا بها إلى الحدّ الذي تجاوزوا فيه كل الحدود .