{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} هذه هي الحقيقة التي يؤكدها القرآن في هذه الفقرة من الآية ،وخلاصة فكرتها أنّ قضية القوة والضعف لا يمكن أن تخضع للحدود الجغرافية التي تحيط الإنسان وتضغط على حركته ،بل يمكن للإنسان أن يمتد إلى أماكن أخرى من الأرض ،ليجد فيها السعة التي لا تضيق بنشاطه ،والفرص التي يستطيعمن خلالهاأن يرغم أنف القوى الطاغية الكافرة .وتلك هي قصة كل الدعوات الخيّرة والرسالات الكبيرة ،التي لم تستطع أن تتقدم إلى أهدافها في المحيط الذي انطلقت منه ،ولكنها استطاعت أن تمتد إلى أبعد مدى في الأرض ،فتفسح لخطواتها المجال الذي تسير فيه بسرعة فائقة ،بعيداً عن كل الضغوط والتحديات ؛وبذلك انطلق الإسلام إلى خارج مكة ،بالهجرة التي كانت الحد الفاصل بين عهدين للإسلام ،عاش في أحدهما الاضطهاد والضغط والتنكيل إلى ما يشبه الاختناق وتحرك في ثانيهما من يثرب حتى انتشر في الآفاق الواسعة من العالم ...
إن الإسلام يريد أن يثير في نفوس العاملين أن اضطهاد الدعوة ،في أحد مواقع العمل ،لا يعني استحالة الحركة ،لأن هناك مواقع أخرى للحرية يمكن الانتقال إليها من أجل التحرك بالإسلام إلى آفاق جديدة وانتصارات كبيرة ...إن العاملين لا يعيشون ضيق الأفق في النطاق الإقليمي الذي يتحرك فيه عملهم الرسالي ،بل يعتبرون ساحتهم بحجم ساحة الرسالة ،وذلك هو حجم العالم كله بكل مجالاته ووسائله وآفاقه .فليس للإنسان أن يتجمد عند فرصته ،وليس له أن يختنق في زاوية ،وليس لخطواته أن تتبعثر في أيّة ساحة ؛فمن حقه أن يدخل كل بلد ،ومن واجبه أن يكتشف كل أفق ،لينطلق فيه إلى البعيد البعيد من أهداف الإسلام ...وفي ضوء ذلك ،لا بد له من أن يحرّك طاقاته وينميها بالمستوى الذي يستطيع من خلاله أن يستوعب الحركة في حجم العالم ما أمكنه ذلك .
فلسفة الهجرة في الإسلام
{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ..} والهجرة إلى الله ورسوله تتمثل في كل رحلةٍ يقوم بها الإنسان في خدمة الإسلام والمسلمين ،وفي القيام بواجب شرعي من عبادةٍ ونحوها ،وفي إنقاذ أية فئة محرومة أو مضطهدة من الفئات التي أوجب الله علينا إنقاذها .فمن خرج ليطلب العلم من أجل أن يرفع مستوى المعرفة لدى الناس ،من خلال ما يقربهم من الله ويبعدهم عن الشيطان ،وينمي لديهم القدرات العلمية التي تفتح آفاقهم على العزة والحرية والكرامة التي يحبها الله لعباده المؤمنين ،فقد خرج مهاجراً إلى الله ورسوله ؛ومن خرج ليجاهد في سبيل الله ،أو ليقضي حاجة مؤمن ،أو ليغيث ملهوفاً ،أو ليقوي مستضعفاً ،أو ليهدي ضالاًّ ،أو ليقوم بعملية إصلاح بين الناس ،أو ليدخل السرور على الناس ،أو ليشارك في حكم عدل ،أو ليقوم بأيّ عمل من الأعمال التي يحبها الله ورسوله ،أو ليحج بيت الله ونحو ذلك ...فهو من المهاجرين إلى الله ورسوله .وهكذا تكون حياة الإنسان في سبيل كل الأهداف الرسالية الكبيرة هجرة إلى الله ورسوله ،حتى ولو كان واقفاً في مكانه ،لأن الهجرة ليست فكرة تخضع لحركة الإقدام من موقع إلى آخر ،بل تشمل حركة العمل التي تنقل المجتمع والحياة من مرحلةٍ متأخرةٍ إلى مرحلةٍ متقدمةٍ ،ومن حالةٍ شريرةٍ أو كافرةٍ ،إلى حالةٍ خيّرة أو مهتدية ،لأن القضية مرتبطة بالمضمون والهدف لا بالشكل والموقع ...وإذا تحققت للإنسان مثل هذه الهجرة ،بجميع أسبابها ،كانت حياته سائرة في خدمة الله ،لأنه لا يعمل من أجل مطامحه الذاتية ،بل من أجل رسالة الله العامة .فإذا أدركه الموت وهو في الطريق ،كان موته في خط العمل ،وبذلك كان أجره على الله .وهذا ما عبّرت عنه الآية في قوله تعالى:{ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وجوب الهجرة من كل بلد يضعف فيه الإنسان دينياً
وربما تحدث المتحدثونولا سيما الفقهاء منهمعن وجوب الهجرة من كل بلدٍ يضعف فيه الإنسان دينياً مما قد يؤدي بهفي نهاية المطافإلى الخروج من الدين ،وذلك من خلال الاستيحاء من الآية ،لأن مسألة ضغط المستكبرين لا خصوصية له إلا من حيث النتيجة السلبية التي قد تترتب على البقاء في مواقع سلطتهم ،فإذا عاش الإنسان في بلد تنطلق فيه قوّة الكفر في امتداد فكره وسيطرة قيمه وأخلاقه وعاداته بالمستوى الذي يضغط فيه على المؤمن وعلى أهله ويحاصره في أوضاعه الخاصة والعامة بحيث لا يملك التخلص من التأثر بهولو بشكل لا شعوريمما قد يؤدّيفي نهاية المطافإلى ما يشبه الكفر إذا لم يؤدّ به إلى الكفر المباشر ،وذلك في استسلامه الثقافي لثقافة الكفر وضعفه الروحي أمام روحيته ،وانحرافه الأخلاقي أمام أخلاقه ،وإذا كان يمكن أن يحفظ نفسه بعض الشيء من سيطرة الواقع الكافر على شخصيته ،فإنه لا يملك أن يحفظ أولاده وأهله من ذلك ،لأنهم لا يملكون أية مناعةٍ ذاتية ضد السقوط تحت تأثير هذا الواقع الكافر أو الضال ،مما يجعل من بقائه في هذا البلد أو ذاك سبباً في السقوط الفردي أو العائلي إسلامياً ،وانحرافاً عن مدلول الآية{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[ التحريم:6] .
ولعل هذا هو ما نشاهده في هجرة الكثيرين من المسلمين إلى بلاد الغرب الذي يخضع في حضارته وقيمه وأوضاعه لفكر يختلف كثيراً عن فكر الإسلام ،ولعادات وتقاليد ومناهج مضادة للإسلام في المبدأ والتفاصيل وقد انحرف الكثيرون منهم فكرياً وأخلاقياً وروحياً بحيث عادوا مسلمين من دون إسلام في واقع الآباء الذي بقي الانتماء حياً في أشخاصهم بطريقة تقليدية ،أما الأبناء ،فقد ابتعدوا ابتعاداً تاماً عن الإسلام حتى لم يبق لهم من الإسلام شيء إلا ما يرددونه من بعض الكلمات في دائرتهم العائلية بفعل المجتمع الذي يتحركون فيه ،والمدارس التي يتعلمون فيها ،والأوضاع التي يعيشون في داخلها ويتأثرون بتفاصيلها .
ونحن نوافق هؤلاء الفقهاء على هذا الحكم ،لأن قضية الهجرة الواجبة في مورد الآية لا خصوصية لها إلا من خلال الضعف الذي يعيش فيه المستضعفون تحت تأثير المستكبرين بما يؤدي إلى ضلالهم ،فتشمل كل حالة مماثلة من حيث العيش في دائرة الاستكبار الثقافي والتربوي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي بما لا يملك الإنسان المؤمن الثبات على دينه في ساحاته ،وهذا هو الذي أشار إليه الحديث المأثور: «لا تعرّب بعد الهجرة » باعتبار أن التعرب يمثل حالة البعد عن مصادر الثقافة الإسلامية والقوة الروحية والمجتمع العاصم من الانحراف ،فيتحول الإنسانبفعلهإلى شخص يشبه الأعراب الجاهليين الذين لا يملكون الوعي الإسلامي الثقافي والالتزام الديني والاستقامة الأخلاقية ،مما تمثل الهجرة الخروج منه .وربما كان وجوب الهجرة في صدر الإسلام منطلقاً من التخطيط الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية للمسلمين في دائرة المجتمع النظيف الذي يحميهم من كل قذارات الجاهلية ،ليكون نموّهم بين المسلمين نموّاً طبيعياً يتمثلون فيه فكر الإسلام وقيمه وعاداته وأخلاقياته بشكلٍ دقيقٍ ،هذا بالإضافة إلى ما يريده الإسلام في تشريعه الهجرة من مكة إلى المدينة من تقوية المجتمع الإسلامي بتجميع كل أفراده وجماعاته في الموقع الإسلامي الجديد لمواجهة التحديات الكبرى التي يفرضها الشرك على الإسلام وأهله ،وقد جاء عن أمير المؤمنين( ع ) «والهجرة قائمةٌ على حدّها الأول » ،لأن الظروف التي فرضت الهجرة في صدر الإسلام ،تفرض الهجرة في المدى الزمني في حياة المسلمين ،كما أن القضايا التي أريد تأكيدها وتأصيلها هي نفسها القضايا التي يراد تركيزها في المراحل الإسلامية في حركة الخط الإسلامي في الواقع ،وأما الحديث الذي روي عن النبي محمد( ص ) «لا هجرة بعد الفتح » ،فالظاهر أنه مخصوص بالهجرة من مكة ،لأنها تحوّلت إلى بلد إسلامي في مجتمعه وسلطته ،فلا مشكلة في البقاء فيه ،بل ربما كان ذلك ضرورةً في واقعه الجديد .
المستضعفون وضرورة تحريك الإمكانات المتاحة
أمّا المستضعفون من هؤلاء المسلمين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً إلى الهجرة من بلاد الكفر البقاء في بلاد الإسلام يضطرونبفعل بعض الضغوط الساحقةالبقاء في بلاد الكفر ،فيجب عليهم أن يحركوا كل إمكاناتهم لتنمية العناصر الإسلامية في مجتمعهم ،بإيجاد المؤسسات الإسلامية كالمساجد والمدارس والنوادي الثقافية والرياضية والاجتماعية التي تحرّك الروح الإسلامية ،والتربية الدينية التي تثبّت لهم إيمانهم وتحمي إسلامهم ،وتصنع منهم دعاة إلى الإسلام في دار هجرتهم ،ليكونوا عناصر قوة للإسلام بدلاً من أن يكونوا عناصر ضعف له في استسلامهم للكفر .
ولعل من الضروري أن يبادر المسلمون من خلال قياداتهم إلى القيام بالمشاريع الإسلامية الثقافية والتربوية ومساجد العبادة وغيرها في بلدان الغرب أو غيره من البلدان غير الإسلامية ،لأن الحاجة قد أصبحت ملحّةً لسكن المسلمين فيه من خلال حاجاتهم الاقتصادية والثقافية التي تفرض الهجرة إليها ،بحيث تحوّل الوجود الإسلامي العددي في بعض البلاد الغربية إلى قوّة من الدرجة الثانية بالنسبة إلى الموقع الديني مقارناً بالدين الآخر .هذا مع ملاحظة أن التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية أصبحت تفرض على المسلمين الانفتاح على العالم كله من أجل تجميع عناصر القوة في كل أوضاعهم العامة والخاصة ،مما يجعل انتقالهم إلى بلدان العالم ضرورة حضارية على جميع المستويات ،لأن بعض الحالات الضاغطة في مجتمعات الكفر قد تؤدي إلى عزلة المسلمين عن العالم إذا أرادوا أن يخضعوا لبعض التحفظات التي يمكن إزالتها بالتخطيط لإيجاد الأجواء الإسلامية التي تؤكد حماية الواقع الإسلامي من الانحراف .