وإذا كان الله لا يريدنا أن نجهر بالسوء من القول ؛فإنه يترك لنا الخيار في الحديث عن الخير ،في ما نخفيه ونبديه منه ؛فقد تمس الحاجة إلى الحديث عنه من أجل تشجيع الناس على القيام به ،وقد تكون المسألة تفرض الإخفاء وترك الحديث عنه ،لعلاقة ذلك بكرامة الإنسان الذي فعل الخير معه ،لأن الإعلان عنه يُحرجه ويسيء إليه لاعتبارات ذاتية أو اجتماعية ،وقد تكون القضية مرتبطةً بإخلاص فاعل الخير الذي يجب أن لا يتحدث الناس عن عمله ،لأن مثل ذلك يعرّضه لبعض الحالات النفسية المعقدة التي تقوده إلى الرياء ونحوه ،فعلينا أن نحترم مشاعرهإن كان الفاعل غيرناوعلينا أن نخلص لعملناإن كنا نحن الفاعلينوقد تكون القضية منطلقةً من مبدأ المحافظة على عمل الخير ،لأن الكتمان ينميّ حركته ويبعد عنه التحديات الصعبة ،وهكذا يختلف الموقف حسب اختلاف المصلحة العليا في ذلك كله .
وربما كانت الحالة التي تواجه الإنسان ،هي حالة إساءة الآخرين إليه ،مما قد يثير في نفسه العقدة تجاه ذلك ،فتستيقظ نوازعه الذاتية لتحرك فيه جانب الثأر لنفسه لاسترداد حقه والدفاع عن كرامته ،ولكن الله يريد أن يوجهه وجهةً أخرى ،هي الارتفاع بالمسألة إلى مستوى الروحية الإسلامية التي يواجه بها كل المشاكل مع إهمال كل السلبيات الذاتية ودراسة الظروف الموضوعية المحيطة بهذه المسألة لتظهر بذلك النتائج الإيجابية التي تكمن خلف اختيار الوجه الإيجابي من الحل ،ليكون العفو عن الإساءة وتجاوز المسألة بوعيٍ ورحمة وانفتاح ،هو الانطلاقة التي تفتح القلب على الجانب الخيّر من الحياة ،وتحرك الفكر والشعور في الجانب المشرق من الشخصية الطيبة الواعية ،وذلك بتخلّق الإنسان بأخلاق الله في العفو من موقع القدرة ،حيث يريد من عباده أن يتخلقوا بها ؛وكان الله عفواً قديراً .
وهكذا خططت هاتان الآيتان لحركة المؤمن ،في ما يريد أن يتحدث به من أحاديث الخير والشر المتعلقة بالناس ،كما وجهت سلوكه للعفو عن التصرفات السيئة التي يقوم بها الآخرون ضده ؛وذلك من موقع الارتفاع إلى المستوى الأعلى من روحية التصرف ،وهذا هو الطابع الإسلامي للتربية ،في ما يريده للشخصية الإسلامية من تربية سليمة .