مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديقال مجاهد: إن ضيفاً تضيّف قوماً فأساؤوا قراه فاشتكاهم ،فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكوا .
وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق( ع ) ،في التأكيد على هذه الفكرة في النموذج المذكور للمظلوم ،أنه قال: إنّ «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم ،فهو ممن ظلم ،فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه » .
ليس للإنسان الحرية في أن يتكلم بما يحلو له من الكلمات التي تتعلق بأفعال الناس ،مما يوحي بالذم والانتقاص والسوء ،لأن ذلك يجعل الحياة الاجتماعية والفردية خاضعةً للانفعالات السلبية الذاتية التي يحس بها الإنسان تجاه الآخرين ،فيسيء إليهم ويحطّم كرامتهم من دون معنى ؛فيفقدونعلى أساس ذلكالشعور بالثقة والاطمئنان في مثل هذا المجتمع الذي يسمح فيه للأفراد أن يتكلموا بالسوء بما شاؤوا عمن شاؤوا ولمن شاؤوا ...ولذلك فقد اعتبر الإسلام ذلك منطقة محرمةً على الإنسان ،لا يجوز له أن يأخذ حريته فيها .وفي هذا الجو ،كانت الغيبة التي هي «ذكرك أخاك بما يكره في ظهر الغيب » من الكبائر التي توعد الله عليها بإدخال صاحبها النار ،لعلاقتها بالحقوق الإنسانية الإيمانية التي تفرض عليك احترام أخيك في أسراره التي تطّلع عليها صدفةً ،فلا تذكرها للآخرين .وهذا ما أرادت الآية أن تؤكد عليه ،لتربطه بالعلاقة الوثيقة بالله التي تدعو الإنسان المؤمن إلى أن يحبّ ما يحبه الله ويكره ما يكرهه ،لأن الإخلاص له يعني ذلك في ما يتصل بالأفكار والمشاعر والمواقف ؛وذلك فحوى قوله تعالى:{لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} ،وهو الإعلان به وإظهاره بأية وسيلة من الوسائل .
وقد اختلف المفسرون في تفسير السوء من القول على أقوال: ( أحدها ): لا يحب الله الشتم في الانتصار .( ثانيها ): لا يحب الله الجهر بالدعاء على أحد .( ثالثها ): إن المراد لا يحب أن يذمّ أحد أحداً أو يشكوه أو يذكره بالسوء .والظاهر أن الآية شاملةٌ للجميع لصدق الجهر بالسوء على كل هذه الموارد .
ولما كان لكل قاعدة استثناءٌ ،جاءت الآية لترخص للمؤمنين المظلومين الذين يعانون من قهر الظَلَمة واستبدادهم ،في ما يتعلق بأنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،فأباحت لهم أن يتحدثوا عن ظلامتهم وإن كان ذلك لوناً من ألوان الجهر بالسوء ،لأن النهي كان لمصلحة الإنسان ،حتى في احترام أسراره السيّئة ،فإذا كان الإخفاء ضد مصلحته ،فإن الرخصة تكون منسجمة مع خط الإسلام في التشريع .وهذا ما نواجهه في موقف المظلوم من الظالم ؛فمن حقّه أن يتنفّس ويعبّر عن مشكلته ،بالشكوى الذاتية التي ترفع عن صدره ثقل الأزمة ،أو بالشكوى لمن يستطيع أن يحل له مشكلته وينصفه من ظالمه ،لأن ذلك هو السبيل لمحاربة الظلم والظالمين ،فقد يرتدعون عن ذلك إذا علموا أن الناس سوف يتحدثون عنهم بطريقةٍ قاسيةٍ ،مما يسبب لهم المقت والعداوة والإذلال ...وقد جاءت السنة الشريفة لتؤكد على ذلك ولتضيف إليه موارد كثيرة ،مما يجوز فيه للمؤمن أن يذكر المؤمن الآخر بالسوء من خلال بعض المصالح العامة التي تمسّ الفرد والمجتمع ،في المستوى الكبير في الأهمية التي تتصاغر عندها المفسدة الناشئة من ذكر الإنسان بسوء .فإن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ،وبذلك تختلف في حال التزاحم بينها ،تبعاً لاختلاف درجة الأهمية في المصالح والمفاسد .{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} ،يسمع كل أقوالنا ويعلم كل دوافعها من خير أو شر ....