التّفسير
في هذه الآية إشارتان إِلى التكاليف الأخلاقية الإِسلامية:
الأُولى: تبيّن أنّ الله لا يحبّ التجاهر بالكلام البذيء ،ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم ،فتقول الآية: ( لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول ...) .
إِن عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس ،نابع من حقيقة أنّ الله هو ستار العيوب ،فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإِساءة إِلى سمعتهم ،وممّا لا يخفى على أحد هو أنّ لكل إِنسان نقاط ضعف خفية ،ولو انكشفت هذه العيوب لساد المجتمع جو من سوء الظن بين أفراده ،فيصعب عندئذ قيام التعاون بين هؤلاء الأفراد ،لذلك منع الإِسلام وحرّم التحدث عن نقائص أو فضائح أعمال الآخرين دون وجود هدف سليم ،لتبقى الأواصر الاجتماعية قوية مستحكمة ،ورعاية للجوانب الإِنسانية الأخرى في هذا المجال .
وتجدر الإِشارة إِلى أنّ كلمة «سوء » تشمل كل أنواع القبح والفضيحة ،والمقصود من عبارة «الجهر ...من القول » هو كل حالة من الكشف والفضح اللفظي ،سواء كان بصورة شكوى ،أو على شكل حكاية أو لعن أو ذم أو غيبة .
وقد اُستدل بهذه الآيةأيضاً على تحريم الغيبة ،إِلاّ أن مفهومها لا ينحصر بهذه الصفة الأخيرة ،بل يشمل كل أنواع الكلام البذيء والمذموم .
إِلاّ أنّ الآية الكريمة لم تحرم ( القول بالسوء ) تحريماً مطلقاً ،فقد استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إِلى الكشف والفضح ،وهذه الحالة هي إِذا وقع الإِنسان مظلوماً حين قالت الآية: ( إِلاّ من ظلم ) وبهذا الدليل يستطيع المظلومفي مقام الدفاع عن نفسهأن يكشف فضائح الظالم ،سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوئ الظالم أو توجيه النقد له ،أو استغابته ،ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم .
وحقيقة هذا الإِستثناء هي أنّ الله أراد به أن يسلب من الظالمين فرصة إِساءة استغلال حكم المنع والتحريم ،ولكي لا يكون هذا الحكم سبباً في سكوت المظلوم عن المطالبة بحقه من الظالم .
واضح من الآية بأنّ عملية الكشف والفضح يجب أن تنحصر في إِطار بيان مساوئ الظالم لدى الدفاع عن المظلومين أو لدى دفاع المظلوم عن نفسه .
ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إِساءة استغلال هذا الحكم بدعوى وقوع الظلم عليه أكدّت على أنّ الله يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكل ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: ( وكان الله سميعاً عليماً ) .
وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إِلى النقطة المواجهة لهذا الحكم ،حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها ( على عكس المساوئ التي يجب أن تكتم إِلاّ في حالة استثنائية ) كما تبيحأو بالأحرى تحثّالفرد على إِصدار العفو على من ارتكب السوء بحقّه ،لأنّ العفو عند المقدرة من صفات الله العزيز القدير الذي يعفو عن عباده مع امتلاكه القدرة على الإِنتقام بأي صورة شاء ،فتقول الآية في هذا المجال: ( إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإِنّ الله كان عفواً قديراً ) .
العفو عن المعتدي وأثره على نزعة العدوان:
سؤال يطرأ هنا على الذهن وهو: ألا يعتبر العفو عن الظالم المعتدي تأييداً لظلمه وتشجيعاً لنزعة العدوان لديه ؟ألا يؤدي العفو إِلى ظهور حالة سلبية من اللامبالاة لدى المظلومين .
والجواب هو: أنّ العفو لا صلة له بمسألة تحقيق العدل ومكافحة الظالم ،والدليل على ذلك ما نقرؤه في الأحكام الإِسلامية من نهي عن ارتكاب الظلم وأمر بعدم الخضوع له ،كما في الآية ( لا تظلمون ولا تظلمون ){[921]} وقول أمير المؤمنين علي( عليه السلام ) «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً »{[922]} وقوله تعالى: ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إِلى أمر الله ){[923]} .
كما نقرأ من جانب آخر الأمر بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: ( وإِن تعفوا أقرب للتقوى ){[924]} وقوله: ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ) .{[925]}
من الممكن أن يتبادر إِلى ذهن بعض البسطاء أن هناك تناقضاً بين هذين الحكمين ،ولدى الإِمعان فيما ورد في المصادر الإِسلامية في هذا المجال ،يتّضح أنّ العفو والصفح يجب أن يكون في موضع بحيث لا يساء استغلاله ،وإِنّ الدعوة إِلى مكافحة الظلم وقمع الظالم يكون له مجال آخر .
ويجدر توضيح أنّ العفو والصفح يكونان لدى تملك القدرة وعند الإِنتصار على العدو وهزيمته النهائية ،أي في حال لا يحتمل فيها حصول أي خطر جديد من جانب العدو ،ويكون العفو والصفح عنه سبباً لإِصلاحه واستقامته ودفعه إِلى إعادة النظر في سلوكه ،والتاريخ الإِسلامي فيه أمثلة كثيرة في هذا المجال ،والحديث المشهور القائل «إِذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه »{[926]} خير دليل على هذا القول .
أمّا في حالة وجود خطر من جانب العدو ،واحتمال أن يؤدي العفو عنه إِلى تجريه وتماديه أكثر في عدوانه ،أو إِذا اعتبر العفو استسلاماً للظلم وخضوعاً أمامه ورضى به ،فإِنّ الإِسلام لا يجيز مطلقاً مثل هذا العفو ،وكما أنّ أئمّة الإِسلام لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات .