{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وذلك بأن يجعل الهداية جزءاً من التكوين الذاتي لشخصيتهم ،فيبدعها فيهم كما أبدع أعضاءهم ،وهو القادر على ذلك ،ولكن الله أراد لهم أن يتحركوا في خط الهداية من موقع الاختيار الذي تشكله القناعة ويؤكده الالتزام ،ليكون مصيرهم محكوماً للإرادة والاختيار في الالتزام بالنهج الذي يحدّد نوعيته في الآخرة ،{وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} وهم الذين اختاروا ولآية الله وارتبطوا به ورجعوا إليه عبر الإيمان به ،فأعطاهم الله ولايته التي ينصرهم من خلالها ،وينشر عليهم ظلال رحمته ،ويرعاهم بعين لطفه وعنايته .
{وَالظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو الشرك ،أو التمرد على الله ومحاربة رسله ورسالته ،{مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} لأن الذين جعلوهم أولياء لهم من دون الله ،وانتصروا بهم في الدنيا ،وأُمّلوا أن ينصروهم في الآخرة ،لا يملكون لهم شيئاً ،لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ،فكيف يملكونه لغيرهم ،وما قيمة قوَّتهم أمام قوة الله حتى ينصروهم من الله ؟!ولذلك يدخلون النار من دون أن يخلّصهم أحدٌ منها ،بينما يدخل المؤمنون الجنة بإيمانهم وعملهم الصالح .
ما المراد بجعلهم أمّة واحدة ؟
وقد ذكر في الميزان «أن المراد بجعلهم أمة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في الجنة وإدخال الجميع في السعير ،أي أنه تعالى ليس بملزمٍ بإدخال السعداء في الجنة والأشقياء في النار ،فلو لم يشأ لم يفعل ،ولكنه شاء أن يفرّق بين الفريقين .وجرت سنته على ذلك ووعد بذلك ،وهو لا يخلف الميعاد »[ 1] ،وقد اعترض على ذلك صاحب الكشاف الذي فسّر الآية بما فسرناها به .«بأن الآياتكما عرفتمسوقةٌ لتعريف الوحي من حيث غايته ،وأنَّ تفرق الناس في يوم الجمع فريقين ،سبب يستدعي وجود النبوة والإنذار من طريق الوحي وقوله:{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} مسوقٌ لبيان أنه تعالى ليس بمجبرٍ على ذلك ولا ملزم به ،بل له أن لا يفعل ،وهذا المعنى يتم بمجرد أن يجعلهم متفرقين فريقين بل أمّةً واحدةً كيفما كانوا ،وأمّا كونهم فرقة واحدةً مؤمنةً بالخصوص فلا مقتضى له هناك »[ 2] .
ونحن نلاحظ على ذلك ،أن ظاهر الآيات هو تأكيد جانب الاختيار الذي أراد للناس أن يواجهوا به مسألة الإنذار الذي يتضمّنه الوحي النازل من الله ،ليختاروا مصيرهم باختيارهم الطريق الذي يؤدي بهم إلى الجنة ،أو الطريق الذي يؤدي بهم إلى النار ..وبذلك كان قوله:{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} تأكيداً لهذه النقطة ،وبياناً لقدرة الله على أن يخلقهم مؤمنين ليكونوا أمة واحدةً في خط الإيمان ،بحيث تلتقي إرادته التكوينية في إيمانهم ،بإرادته التشريعية في ذلك ،ولكن الله لم يشأ ذلك بل ترك لهم حرية الاختيار ..وأمّا اختصاص الفرقة بالمؤمنين فمن خلال أن الله لا يمكن أن يجعل الكفر حالةً تكوينيةً في الكافر ،لأن ذلك لا ينسجم مع حكمته التي تقتضي أن يكون الخلق على أساس الحق ،كما لا ينسجم مع عدله إذا كان يريد أن يدخلهم النار .
وأمّا ما ذكره من «أنه تعالى ليس بملزمٍ بإدخال السعداء في الجنة والأشقياء في النار ،فلو لم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين » ،فنلاحظ عليه ،أن هذه المسألة ليست مطروحةً كمشكلةٍ فكرية ،فلم يقل أحد بأن الله ملزمٌ بذلك ،بل المطروح في مسألة الإيمان والكفر هو جانب الجبر والاختيار ،الذي أخذ مكاناً واسعاً في القرآن باعتباره المظهر الحي للعدالة الإلهية في مسألة تقديره للمصير ،والله العالم .
وقد نقل في الميزان عن بعضهم: «إن الأنسب للسياق هو اتحادهم في الكفر بأن يراد جعلهم أمّةً واحدةً كافرةً كما في قوله:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ}[ البقرة:213] فالمعنى: ولو شاء الله لجعلهم أمّةً واحدةً متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولاً ينذرهم ،فيبقوا على ما هم عليه من الكفر »[ 3] .
ونلاحظ على ذلك أن هذا مخالف للسياق على ضوء ما ذكرناه ،مع أنه لا يناسب الجعل الذي يعنى الإيجاد الذي يتصل بالجانب الإيجابي في تكوين الكفر في وجودهم ،لا بالجانب السلبي في عدم تدخله بإيجاد الأسباب التي قد تؤدي إلى إيمانهم ،والله العالم .