{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} بلغته وأسلوبه{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وهي مكة{وَمَنْ حَوْلَهَا} من أهل الجزيرة العربية ،والغآية من عروبة القرآن ،هي أن يفهم هؤلاء الدعوة لاستعمالها لغتهم التي يعرفونها ويملكون أسرارها وعناصر ثقافتها ،ولعل التركيز على هذه المنطقة باعتبارها الساحة التي تنطلق فيها الدعوة وتتحرك منها الحركة الإسلامية ..لأن من الضروري لكل دعوة أن تكون لها نقطة انطلاق وقاعدة حركةٍ ،وكان من الطبيعي للنبي العربي أن تكون قاعدته المنطقة العربية ،وأن يجعل انتماؤه إلى قريش ومكة موقع دعوته الجغرافية مكة ،والبشرية قريش .ولهذا قال الله له:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} [ الشعراء:214] فليس من المعقول أن يترك النبي أهله وعشيرته وبلده ،ليتجهفي البدايةإلى إنذار قوم آخرين ،لأن هؤلاء الناس سوف يسألونه لماذا لم تبادر إلى إنذار قومك ودعوتهم قبل أن تنذرنا ،وقد يتساءلون عما إذا كانت هناك نقاط ضعفٍ في شخصيته ،يعلمها قومه فيه ،أو نقاط خللٍ في دعوته لا تخفى على قومه ..فهرب منهم إلى قومٍ آخرين .
ولهذا كانت الانطلاقة الأولى في مكة ،لتكون قاعدة الدعوة ،باعتبارها مركزاً يجتذب ما حوله من القرى ،فهي عاصمة المنطقة من الناحية الدينية والتجارية والثقافية ،ما يجعلها النقطة المركزية التي يلتقي فيها الجميع ،ويتناقل أخبارها كل ما حولها نظراً للأهمية الكبرى التي يضفيها الموقع على تلك الأخبار .لذا فإن الصراع الذي دار بين النبي وبين قريش في مكة أحاط الدعوة بقدرٍ كبير من الاهتمام لاقته من شعب المنطقة ،نظراً لملاحقة الناس لكل تفاصيل صراع الدعوة مع خصومها ،ثم في الحروب التي أعقبت تلك المرحلة بين المسلمين وبين قريش ..
عروبة القرآن وانتماؤه العام
نستطيع أن نفهم عروبة القرآن في لغته ،وعروبة الدعوة في موقعها الجغرافي ،وفي مواقعها الإنسانية ،من خلال عروبة النبي( ص ) التي قضت حكمة الله إرساله من هذه الأمة ،وإليها ،فقد اقتضت حكمة الله أن تكون هذه الأمة بالذات قاعدة انطلاق الدعوة في فهمها للرسالة ،بلغتها ،التي نزل القرآن بها ،وفي وعيها لروحيتها والتزامها بها ،وحملها الدعوة إليها ،وانتمائها الرسالي إليها الذي جعلها تنفتح إنسانياً على الساحة العالمية التي تتحرك فيها الرسالة كدعوةٍ للاهتداء بهدى الله في قرآنه وشريعته .
ولكن ذلكمهما بلغ من الأهميةلا يتضمن إقراراً بالتفوق العربي ،أو أن الحاكم المسلم يجب أن يكون عربياً ،أو الوصول إلى درجة التطرف التي وصل إليها البعض ،وهي القول إن الإسلام دينٌ عربيٌ ،بالمعنى الفكري والروحي للكلمة .
فقد استطاع الإسلام من خلال القرآن والسنّة أن يعرّب المسلمين من غير العرب الذين أَخَذوا بأسباب الثقافة العربية ،حتى تفوّقوا على كثيرٍ من العرب في ذلك ،كما أن الإسلام استطاع أن يعطي العرب البعد الإنساني الذي يحمله في مضمونه الفكري والروحي ،بحيث جعل العروبة خصوصيةً إنسانيةً تتفاعل مع الخصوصيات الإنسانية الأخرى في الدائرة الإسلامية ،لتكون معنًى في الإنسان لا معنًى في القومية الضيّقة ..ومن خلال ذلك ،نشعر بالحاجة إلى أن يعيش العرب الإسلام كرسالةٍ عالميةٍ تتغذى من طاقة الوعي المنفتح على كل أسرار اللغة ،لتنفتح على كل أسرار الشريعة والمنهج والخطوط الفكرية في الإسلام ،وليعطوا الإسلام من جهدهم في الحاضر والمستقبل كما أعطوه في الماضي ،وليكون العنصر الأساس في شخصيتهم الإنسانية ،ليمتدوا به إلى العالم بدلاً من أن يحبسوه في دائرتهم الخاصة أو يهربوا منه إلى دائرةٍ أخرى لا يشكل الإسلام عنصراً أصيلاً فيها .
{وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فتعرِّفهم يوم القيامة ،وتحدثهم عن النتائج الحاسمة التي تتوزع بين النتائج الإيجابية والسلبية التي تشكل ثمرة أعمال الناس:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} وهم المؤمنون المتّقون الذين أخلصوا لله الإيمان والطاعة ،{وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وهم الكافرون المتمردون الذين أنكروا الله ،أو أنكروا توحيده ،أو تمردوا على طاعته وكذبوا رسله .