قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً} .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى:{لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عربي مُّبِينٍ} [ الشعراء: 194 – 195] ،وفي الزمر في الكلام على قوله تعالى:{قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذي عِوَجٍ} [ الزمر: 28] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى:{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .
خص الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة إنذاره ،صلى الله عليه وسلم بأم القرى ومن حولها ،والمراد بأم القرى مكة حرسها الله .
ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين كقوله تعالى{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [ الأعراف: 158] وقوله تعالى:{تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [ الفرقان: 1] وقوله تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} [ سبأ: 28] الآية ،كما أوضحنا ذلك مراراً في هذا الكتاب المبارك .
وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا وفي سورة الأنعام في قوله تعالى:{وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} [ الأنعام: 92] الآية ،في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ،فقلنا فيه: والجواب من وجهين .
الأول: أن المراد بقوله:{وَمَنْ حَوْلَهَا} [ الأنعام: 92] شامل لجميع الأرض ،كما رواه ابن جرير وغيره ،عن ابن عباس .
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً ،أن قوله{وَمَنْ حَوْلَهَا} [ الأنعام: 92] لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرسها الله ،كجزيرة العرب مثلاً ،فإن الآيات الأخر ،نصت على العموم كقوله{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [ الفرقان: 1] وذكر بعض أفراد العام بحكم العام ،لا يخصصه عند عامة العلماء ،ولم يخالف فيه إلا أبو ثور .
وقد قدمنا ذلك واضحاً بأدلته في سورة المائدة ،فالآية على هذا القول كقوله{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} [ الشعراء: 214] فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ،كما هو واضح .والعلم عند الله تعالى ا ه منه .
قوله تعالى:{وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} .
تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين:
أحدهما: أن من حكم إيحائه تعالى ،إلى نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العربي ،إنذار يوم الجمع ،فقوله تعالى:{وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} معطوف على قوله:{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} أي لا بد أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع فحذف في الأول ،أحد المفعولين وحذف في الثاني أحدهما ،فكان ما أثبت في كل منهما ،دليلاً على ما حذف في الثاني ،ففي الأول حذف المفعول الثاني ،والتقدير «لتنذر أم القرى » أي أهل مكة ومن حولها ،عذاباً شديداً إن لم يؤمنوا ،وفي الثاني حذف المفعول الأول ،أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة أي تخوفهم مما فيه من الأهوال ،والأوجال ليستعدوا لذلك في دار الدنيا .
والثاني: أن يوم الجمع المذكور لا ريب فيه ،أي لا شك في وقوعه ،وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ،جاءا موضحين في آيات أخر .
أما تخويفه الناس يوم القيامة ،فقد ذكر في مواضع من كتاب الله كقوله تعالى:{وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [ البقرة: 281] .وقوله تعالى{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ} [ غافر: 18] .وقوله تعالى:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [ المزمل: 17 -18]: وقوله تعالى:{أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [ المطففين: 4 -6] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وأما الثاني منهما: وهو كون يوم القيامة لا ريب فيه فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [ النساء: 87] وقوله{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [ آل عمران: 25] وقوله تعالى:{وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} [ الحج: 7] الآية .وقوله تعالى{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ} [ الجاثية: 32] الآية .إلى غير ذلك من الآيات .
وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع ،لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق .والآيات الموضحة لهذا المعنى ،كثيرة كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين َلَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [ الواقعة: 49- 50] وقوله تعالى:{هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ والأولين} [ المرسلات: 38] .وقوله تعالى:{اللَّهُ لا إِلََه إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [ النساء: 87] .وقوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [ التغابن: 9] وقوله تعالى{ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [ هود: 103] وقوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [ آل عمران: 25] وقوله تعالى:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [ الكهف: 47] .
وقد بين تعالى شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله تعالى:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ في الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [ الأنعام: 38] ،والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة .
قوله تعالى:{فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ} .
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق ،وجعل منهم فريقاً سعداء ،وهم أهل الجنة ،وفريقاً أشقياء وهم أصحاب السعير ،جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى:{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [ التغابن: 2] وقوله تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [ هود: 118 -119] أي ولذلك الاختلاف ،إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد ،خلقهم على الصحيح ،ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جداً .
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ،وجه الجمع بين قوله:{وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} على التفسير المذكور ،وبين قوله{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [ الذاريات: 56] ،وسنذكر ذلك إن شاء الله في سورة الذاريات .
وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى:{وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [ الحج: 4] ،والجنة في لغة العرب البستان .
ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
كأن عيني في غربي مقتلة *** من النواضح تسقي جنة سحقا
فقوله: جنة سحقا ،يعني بستاناً طويل النخل ،وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة .
والفريق: الطائفة من الناس ،ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين ،ومنه قول نصيب: فقال فريق القوم لا ،وفريقهم *** نعم وفريق قال ويحك ما ندري
والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله: فريق في الجنة ،أنه في معرض التفصيل .
ونظيره من كلام العرب قول امرىء القيس:
فلما دنوت تسديتها *** فثوب نسيت وثوب أجر