اليهود ونكرانهم لميثاقهم مع الله
ويظل الحديث عن الميثاق الَّذي أخذه الله على عباده عبر تاريخ البشريّة ،وكيف نقضه الكثيرون ،وما كان الجزاء المترتب على ذلك ،ويخصّ بالحديث بني إسرائيل الَّذين كانوا في طليعة هؤلاء الَّذين أخذ الله منهم الميثاق ،فتمردوا عليه ونقضوه بكفرهم وبغيهم ،فأرسل الله منهم اثني عشر نقيباً ،والنقيب هو الَّذي يرعى أمور الآخرين ويعرف أسرارهم وأمورهم ،واختلف المفسرونكعادتهمفي تحديد هؤلاء ،فهل هم الَّذين أرسلهم موسى من الأسباط كالطلائع ليتعرّفوا أخبار الشام وأهلها الجبارين ؟أو هم الكفلاء الَّذين أخذهم من كل سبط ليضمن التزامهم بالميثاق ؟أو هم الرسل أو الأنبياء الَّذين بعثهم الله من بني إسرائيل ليقيموا الدين ؟وقد لا يكون هناك كبير فائدة في هذا التحديد ،لأنَّ الأساس هو في الفكرة الّتي تحكم الصورة ،وليست الصورة نفسها من خلال استيحاء القرآن لقضايا النّاس .تتجسد هذه الفكرة في الالتزام بالميثاق ،لذا على المؤمنين أن لا يخافوا من مواجهة التحديات ،ولا يتنازلوا عن ميثاقهم خوفاً من الأعداء ،لأنَّ الله يحميهم من كل سوء ،ويدفع عنهم كل ضرر ،ويخلّصهم من كل خطر ،فهو يقول لهم:{إِنِّي مَعَكُمْ} .
ومن هنا كان الالتزام بالميثاق يجسّد الثبات والقوّة ،والائتمار بأوامر الله ،وذلك عبر المحافظة على إقامة الصلاة ،الّتي تُمثّل انفتاح الإنسان على الله للتعبير بها عن عبوديته المطلقة له ،وإيتاء الزكاة ،الَّذي يُعبِّر عن القيام بمسؤولية العطاء من أجل الحصول على القرب من الله ،والإيمان بالرسل كخطّ للانتماء الَّذي يحكم الفكر والشعور والعمل ،ونصرتهم وتعظيمهم كموقفٍ معبّر عن صدق الإيمان ،والإنفاق في سبيل الله من دون مقابل ،كقرض يقرضه الإنسان لربّه ،وتلك هي القضايا الحيويّة الّتي تحكم علاقة الإنسان بربّه وعلاقته بالنّاس والحياة ،ما يُمثِّل قاعدة الانطلاق في مسيرته مع الكون .
ويأتي جزاء الالتزام من عند الله بتكفير السيئات لِيُقْدِمَ على ربِّه وهو راضٍ عنه ،فيدخله الجنَّات الّتي تجري من تحتها الأنهار كمظهر للكرامة والرعاية ،أمَّا الَّذي يبتعد عن التزامه بالميثاق ،فله الحكم عليه بالضلال عن الطريق السويّ الذي يؤدي به إلى النار .
وهذا ما حصل عليه بنو إسرائيل كما تبيّن لنا الآية ،فهم قد نقضوا الميثاق ،وحرّفوا الكلم عن مواضعه ،فزيّفوا الحقيقة وانحرفوا بالفكر عن مساره الطبيعي في وحي الله ،ونسوا حظّاً مما ذكّروا به من آياته الّتي تفتح قلوبهم وضمائرهم على النور الآتي منه ،وبذلك لعنهم الله ،وأبعدهم عن ساحة رحمته ،ومنعهم من لطفه وعنايته الّتي تلين بها قلوبهم للخير بسبب كفرهم ونقضهم للميثاق ،فأدّى ذلك إلى قسوة قلوبهم ،حتَّى أنَّها لا تنبض بأي شعور للرحمة أو للخير أو للسلام .ومرّ الزمن ،وتعاقبت الأجيال ،وما زال الخط المنحرف يفرض نفسه على ساحتهم ،وجاء دور أحفادهم ممن عاصروا النبي( ص ) ،ووقفوا أمام الدعوة الجديدة ،فخانوه بعد أن أعطوه العهود والمواثيق على الإخلاص ،ففي كل يوم يطّلع على خيانة جديدة منهم ،إلاَّ القليلين الَّذين عاشوا بعض الإخلاص لكلمتهم وعهدهم .وكان التوجيه للنبي( ص ) أن يعفو عنهم ويصفح ويصبر ،إحساناً منه لهم ،كأسلوب من أساليب احتواء الساحة بالمحبة من أجل أن تتحرك القوّة من موقع القلب المفتوح ،والرحمة الواسعة ،وذلك في نطاق المرحلة ،وفي خط الدعوة الَّذي يمتد حتَّى لا يترك مجالاً للامتداد ،ثُمَّ يتحول إلى خط المواجهة{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
وقد ثبت في تاريخ السيرة النبوية الشريفة أنَّ النبي )ص( عامل اليهود بكل طوائفهم المقيمين حول المدينة أفضل معاملة ،فقد أدخلهم في المعاهدة العامة الّتي عقدها بين طوائف أهل المدينة ،وربطهم بالواقع الاجتماعي للمجتمع المسلم ،وعاهدهم على الامتناع عن حربه ومساعدة أعدائه ،ليحصلوا في مقابل ذلك على الأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وليتمتعوافي نطاق هذه المعاهدةبالحريات الكاملة .وقد جرت الحياة بينهم وبين المسلمين على هذا الخط ،فلم يحدث بينهم وبين المجتمع المسلم أيّ إشكال إلاَّ ما يحدث في داخل أي مجتمع من السلبيات الجزئية الطارئة بين أفراده ،ولكنَّهم نقضوا ذلك كله ،واتجهوا إلى خط الخيانة ،واتفقوا مع قريش وحلفائها من العرب على حرب المسلمين ،ما أدّى إلى طردهم من مواقعهم حماية للمسلمين منهم ،وأوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب الّتي تُمثِّل قاعدة الإسلام الجغرافيّة لكي لا يكيدوا للإسلام والمسلمين .