مناسبة النزول
أخرج ابن جرير الطبري عن يزيد بن أبي زياد قال: جاء رسول الله( ص ) بني النضير يستعينهم في عقل أصابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: أعينوني في عقل أصابني ،فقالوا: نعم يا أبا القاسم ،قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة ،اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا ،فجلس رسول الله( ص ) وأصحابه ينتظرونه ،وجاء حيي بن أخطب وهو رأس القوم ،وهو الذي قال لرسول الله( ص ) ما قال .فقال حيي بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن ،اطرحوا عليه حجارةً فاقتلوه ،ولا ترون شرّاً أبداً ،فجاؤوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه ،فأمسك الله عنها أيديهم ،حتَّى جاءه جبريل ( صلى الله عليه وسلّم ) ،فأقامه من ثمَّ ،فأنزل الله جلّ وعزّ:{يَأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الآية .
وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أنَّ هذه الآية أنزلت على رسول الله( ص ) وهو ببطن نخل في الغزوة السابقة ، غزوة ذات الرقاعفأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا بالنبي( ص ) ،فأرسلوا إليه الأعرابيويعني الَّذي جاءه وهو نائمفي بعض المنازل ،فأخذ سلاحه وقال: من يحول بيني وبينك ؟فقال له: الله ،فشام السيف ( أغمدهُ ) ولم يعاقبه .
وجاء من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنَّ رجلاً من محارب يقال له: غورث بن الحارث قال لقومه من غطفان ومحارب: أقتل لكم محمَّداً ،قالوا: نعم ،وكيف تقتله ؟قال: أفتك به ،قال: فأقبل إلى رسول الله( ص ) ،وهو جالس وسيفه في حجره ،فقال: يا محمَّد ،انظر إلى سيفك هذا ؟قال: نعم ،فأخذه فاستلّه ،ثم جعل يهزُّه ويهمُّ به ،فبكته الله عزّ وجلّ ،ثم قال: يا محمَّد ،ما تخافني ؟قال: لا ،قال: ألا تخافني وفي يدي السيف ؟قال: يمنعني الله منك ،ثُمَّ أغمد السيف وردَّه إلى رسول الله( ص ) ،فأنزل الله الآية .
قال القشيري: «وقد تنزل الآية في قصةٍ ثُمَّ ينزل ذكرها مرةً أخرى لاذّكار ما سبق » كأنَّه يريد بذلك الجمع بين الرِّوايات بإمكان صحة مضمونها بأجمعها .
ونلاحظ أنَّ سياق الآية واردٌ في التحدِّيات الّتي كانت تواجه المسلمين جميعاً في محاولات الأعداء بالهجوم عليهم ،بينما تتحدث الرِّوايات عن محاولة العدوان على النبي( ص ) وحده ،ما يفرض أن يكون الخطاب للنبي( ص ) كما ورد في سورة الأنفال:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [ الأنفال:30] .
ثُمَّ كيف لنا أن نتصوّر النبي محمداً( ص ) يذهب إلى اليهودكما في الرِّواية الأولىليساعدوه في بعض ما ترتب عليه من الدِّية باعتبار أنَّه أحد أفراد العاقلة ،وهم المعروفون بعداوتهم للإسلام والمسلمين ،وكيف يجلس في انتظار ما يتصدَّقون به عليه وهو الموقف الَّذي يجعله في موقع الذل من خلال حاجته المادّية إليهم ؟
وهكذا ،كيف يمكن أن يعرّض نفسه للخطر بهذه الطريقة الساذجة ؟
إنَّنا نتصوّر أنَّ هذه الرِّوايات الّتي ذكرت في أسباب النزول تسيء إلى مقام النبي( ص ) وتبتعد عن سياق الآية ،الأمر الَّذي يجعلنا نتحفظ في الاستفادة منها في التفسير .
الخلاص من كيد الأعداء نعمة إلهية
ويبقى أنَّ هذه الآية تشكِّل توجيهاً تربوياً للمؤمنين في نظرتهم إلى المواقع الّتي يتخلصون بها من كيد الأعداء ،وذلك بتنبيههم كي لا ينظروا إليها كحالة طارئة مرتبطة بظروفها الموضوعيّة ،بل أن ينظروا إليها كنعمة من نعم الله عليهم ،حيث يحيط رسوله والمؤمنين معه بالرعاية واللطف والعناية ،لينقذهم مما هم فيه من الأزمات والأخطاء ،إذ لا ريب أنَّ المسلمين قد مرّوا بأحداث وتحديات دفعها الله عنهم بما رزقهم من قوّة وسددهم به من رأي لا سيما بوجود قائدهم ومرشدهم وهاديهم النبي محمَّد( ص ) .
ويختم الله الآية بالدعوة إلى التقوى الّتي ترتكز على الشعور بإحاطته الإنسان من جميع جوانبه برعايته ولطفه ،والدعوة إلى التوكل عليه ،لأنَّه المهيمن على كل شيء والقادر على كل أمر ،فمن توكّل عليه فهو حسبه .