{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون( 11 )}
/م9
هذا متصل بالأمر بالعدالة مع الأعداء كالعدل مع الأولياء ، ففي هذا النص أمر بالتذكير بحال ضعفهم عندما كانوا يلتمسون العدالة ، ليعتبروا بماضيهم ، ويتخذوا منه عبرة لحاضرهم ، فيتذكروا حال الضعف في حال القوة ، ليعلموا نعمة الله تعالى عليهم ولكي يعدلوا مع غيرهم كما كانوا يلتمسون العدل إذ كانوا مظلومين يتخطفهم الناس ، وينزل بهم البأس .
فالآية تدعو إلى التذكير بنعمة الله ليشكروها ، ولكيلا يشتطوا مع غيرهم ، وبسط اليد معناه بالقوة والأخذ والسيطرة والصولة ، وقد قال تعالى:{. . .ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء . . .( 2 )}( الممتحنة ) فالبسط هنا بسط للصولة والقوة والسيطرة ومعنى النص الكريم:يا أيها الذين أذعنوا للحق واستمسكوا به ، واستجابوا لأمر ربهم تذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم إذ هم قوم أن يمتدوا بيد الأذى ويبسطوها ، فكفها عنكم وبدلكم من بعد الضعف قوة ، ومن بعد الذلة عزة ، ومن بعد أن كنتم تظلمون وترامون بالسوء صرتم يطلب الإنصاف منكم .
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه هو سبحانه الذي رد الأذى وتدبير الشر ، فقال مكررا كلمة الأيدي{ فكف أيديهم عنكم} وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم ومناط شدتهم ، وهي الأيدي التي يكون بها البطش والصولة .
ولقد تكلم مفسرو الأثر وغيرهم في سبب نزول هذه الآية وخصصوا واللفظ عام ، فقالوا:إن يد البطش والغدر كان قد هم بها ناس للاعتداء على شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، والاعتداء عليه اعتداء على المسلمين ، وكف الاعتداء عنه نعمة على كل المسلمين ، وقالوا في ذلك روايات مختلفة تنتهي إلى خبرين:
أولهما:أنه روي من حديث جابر وغيره أن رجلا من بني محارب قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الراحة ومعه السيف وقال للرسول من يمنعك:قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"الله"فوقع السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"من يمنعك مني"، فقال الرجل:كن خير آخذ . قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله"قال:"أعاهدك ألا أقاتلك ، ولا أكون مع من يقاتلونك ، فخلى سبيله ، فجاء إلى قومه وقال:جئتكم من عند خير الناس"{[885]} .
ثانيهما:أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير يطلبون منهم الإعانة على دية رجلين قتلا ، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عقد مع بني النضير عهدا على ألا يحاربوه ، وأن يعينوه على الديات ، فلما طالبهم بحكم هذا العهد أظهروا القبول وأخفوا الغدر ، فقالوا:نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألتنا ، فجلس بجانب جدار لهم ، وقال لهم حيي ابن أخطب:لا ترونه أقرب منه الآن ، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه فهموا أن يطرحوا عليه صخرة ، وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بنية الغدر إذ أعلمه جبريل فانصرف قبل أن ينفذوا ما دبروا{[886]} .
هاتان روايتان في أسباب النزول ويكون القوم هم الذين دبروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرادى وجماعات ، ويكون كف أيديهم نعمة عظيمة على أهل الإيمان .
والذي نراه هو تذكير المؤمنين بما هم به الأقوام من الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين الواقعتين ، ومن قبلهما بتدبير قتله يوم الهجرة النبوية ، ومن الاعتداء على المؤمنين في غزوة أحد ، ومن تضافر العرب في الجزيرة العربية على الذهاب إلى المدينة قصبة الإسلام ، واقتلاعها في غزوة الأحزاب وقد كف الله سبحانه وتعالى في كل هذا تلك الأيدي المبسوطة بالشر ، فلا تخصيص في النص بل يترك على عمومه .
{ واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} بعد التذكير بهذه النعمة التي جعلت للمؤمنين كيانا مستقلا عزيزا كريما ينتصف من الظالمين ، ولا يظلم أحدا أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى وتقوى الله تعالى هي:الشعور بعظمته والإحساس بجلاله وامتلاء القلب به ، واطمئنانه إليه ورجاء ثوابه وخشية عذابه وعبادته كأنه يراه كما ورد في الأثر:"اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"{[887]} .
هذه كلمات تقرب معنى تقوى الله تعالى وهي تتضمن ذكر النعمة ، وتتضمن شكرها وهي في الشكر نص ، ولا يكون الشكر من غير تذكر .
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته:{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وفي هذا طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يتوكلوا عليه ، ولا يتوكلوا على سواه ، وقد صيغ الطلب في صيغة الخبر ، للإشارة إلى أنه حال ملازمة للمؤمنين لا ينفصلون عنها ، لأن من تقوى القلوب ألا يعتمدوا إلا على علام الغيوب فالتوكل على الله وحده في السراء والضراء ، في الشدة وفي الضعف من لب عبادته سبحانه وتعالى .
والتوكل على الله ليس هو التواكل وترك العمل ، بل هو الأخذ في الأسباب ثم الاعتماد في الوصول إلى النتائج على الله تعالى وحده ، فإن الأسباب لا تنتج وحدها ولكن لا بد من فضل الله تعالى بالتوفيق ولطف التقدير .
وفي الجملة الكريمة:{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون} إشارات بيانية واضحة منها ذكر لفظ الجلالة فإنه يشير إلى عظمة من يعتمد عليه إذ يعتمد على منشئ الوجود ومسيره ومبدعه ، وفيها لفظ{ على} فإنه يشير إلى علو من يعتمد على الله وسموه ، وعدم ذلته لمخلوق ، ومنها تقديم الجار وما بعده فإنه يشير إلى الاقتصار في التوكل على الله ، فلا يتوكل على غيره ، لأن ذلك لا يخلو من شرك ، ولأن التوكل من العبادة ، والعبادة لله وحده ، ومنها لفظ الفاء التي ربطت الكلام ولا تخلو من معنى السببية ، فإنها تدل على أن من ثمرات التقوى التوكل على الله تعالى .
هذا ونكرر أن التوكل على الله تعالى حق التوكل يوجب العمل{. . .ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير( 4 )}( الممتحنة ) .