[ 11]{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 11 )} .
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم} أي:في حفظه إياكم عن أعدائكم{ إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} أي:بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك{ فكف أيديهم عنكم} أي:منعها أن تمد إليكم ،ورد مضرتها عنكم .
قيل:الآية إشارة إلى ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها .وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة .فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله فأخذه فسله .ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:من يمنعك مني ؟ قال:الله عز وجل .قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا:من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:الله .فشام الأعرابي السيف .فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي ،وهو جالس إلى جنبه ،ولم يعاقبه ".
وقال معمر: "كان قتادة يذكر نحو هذا ،ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .فأرسلوا هذا الأعرابي .وتأول هذه الآية ".
وأخرج أبو نعيم في ( دلائل النبوة ) من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله ؛"أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحرث قال لقومه:أقتل لكم محمدا .فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره فقال:يا محمد! أأنظر إلى سيفك هذا ؟ قال:نعم .فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى .فقال:يا محمد! أما تخافني ؟ قال:لا .قال:أما تخافني والسيف في يدي ؟ قال:لا .يمنعني الله منك .ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله .فأنزل الله الآية ".
/ وقصة هذا الأعرابي ثابتة في ( الصحيح ){[2898]} .
وأخرج ابن جرير{[2899]} عن عكرمة ويزيد بن أبي زيادة واللفظ له: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير ،يستعينهم في عقل أصابه .فقالوا:نعم .اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا ،فجلس .فقال حيي بن أخطب لأصحابه:لا ترونه أقرب منه الآن .اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ولا ترون شرا أبدا ،فجاؤوا على رحى عظيمة ليطرحوها عليه ،فأمسك الله عنها أيديهم ،حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت .فأنزل الله الآية ".وروى نحه ابن أبي حاتم .
/ قال ابن كثير:ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم ،فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم .انتهى .
وعلى هذه الروايات ،فالمراد من قوله تعالى:{ اذكروا نعمت الله عليكم} تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم ،فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن .
وذكر الزمخشري ،ومن بعده ،من وجوه إشارات الآية ،ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم ،لما هموا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر ،بعد ما رأوهم يصلون الظهر .فندموا على أن لا أكبوا عليهم .فرد كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف .انتهى .
ولفظ الآية محتمل لذلك ،بيد أني لم أره الآن مسندا عن أئمة الأثر .
{ واتقوا الله} أي في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها{ وعلى الله} خاصة دون غيره{ فليتوكل المؤمنون} فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه .
قال أبو السعود:والجملة تذييل مقرر لما قبله .وإيثار صيغة أمر الغائب ،وإسنادها إلى المؤمنين ،لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهاني ،وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان ،داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى ،وازع عن الإخلال بهما .
بحث جليل في التوكل
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله سره- في بعض مصنفاته:قد ظن طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب ،أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة .بل ما كان مقدرا بدون التوكل ،فهو مقدر مع التوكل .ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا .وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب .وقول هؤلاء يشبه قول من قال:إن الدعاء علامة وأمارة .ويقولون ذلك في جميع / العبادات .وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر ،ويقول:إن الله يفعل عندها ،لا بها .وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر- كالأشعري وغيره- وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية .وأصل هذه البدعة من قول جهم .فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر ،فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات ،ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب .حتى أنكر تأثير قدرة العبد ،بل نفى كونه قادرا .وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة .وكان يخرج إلى الجذمي فيقول:أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة .وقوله في القدر ،قد تقرب إليه الأشعري ومن وافقه من الطوائف .والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب .كما دل على ذلك الكتاب والسنة ،مع دلالة الحس والعقل .والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر .والمقصود هنا الكلام على التوكل .فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله ،من جلب المنفعة ودفع المضرة ،ما لا يحصل لغيره .وكذلك الدعاء .والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة .ثم هو سبب عند الأكثرين ،وعلامة عند من ينفي الأسباب:قال الله تعالى{[2900]}:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا* ويرزقه من حيث لا يحتسب ،ومن يتوكل على الله فهو حسبه} .والحسب:الكافي .فبين أنه كاف من توكل عليه .
وفي الدعاء:يا حسيب المتوكلين! فلا يقال:هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل ،لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط ،فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط كعدمه .ولأنه / رتب الحكم على الوصف المناسب له .فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيبا له ،ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل ،كما رغب في التقوى .فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره ،لم يكن ذلك مرغبا في التوكل .كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب .وقال تعالى:{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}{[2901]} .فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل ،والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة .والله خير من توكل العباد عليه .فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شر .وقال تعالى:{ واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا* رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}{[2902]} .وقال{ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا}{[2903]} .وقال{ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا}{[2904]} .فأمر أن يتخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا .لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد ،والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه ،فيحصل للمتوكل بذلك بعض مطلوبه .فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله .وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته .فليس له أن يتوكل عليه ،وإن وكله .بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه ،فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله ،يحصل وإن توكل على غيره ،ويحصل بلا توكل ،لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا .وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد .لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه .وقال تعالى:{ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}{[2905]} أي:الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين .فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول- سواء اتبعوه أو لم يتبعوه- لم يكن للإيمان واتباع الرسول أثر في هذه/ الكفاية .ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى .وكان هذا نظير أن يقال:هو خالقك وخالق من اتبعك .ومعلوم أن المراد خلاف ذلك .وإذا كان الحسب معنى يختص بعض الناس ،علم أن قول المتوكل:{ حسبي الله} وقوله:{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أمر مختص لا مشترك .وأن التوكل سبب ذلك الاختصاص ،والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خص أهله بكرامة ،فلا بد أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة .وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر .فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال .لكن لابد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين .فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا ،وإن عدم التوكل .وقد قال تعالى:{ وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ،والله ذو فضل عظيم}{[2906]} فعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل ،بحرف ( الفاء ) .وهي تفيد السبب .فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من الله وفضل .وأن هذا جزاء على ذلك العمل .وفي الأثر{[2907]}: "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ".فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة ،لم يكن المتوكل أقوى من غيره .وقال تعالى:{ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ،إن الله كان عليما حكيما* واتبع ما يوحى إليك من ربك ،إن الله كان بما تعملون خبيرا* وتوكل على الله ،وكفى بالله وكيلا}{[2908]} .وقال في أثناء السورة:{ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله/ وكفى بالله وكيلا}{[2909]} .فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل .كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع .كقوله:{ فاعبده وتوكل عليه}{[2910]} .وقوله:{ وتبتل إليه تبتيلا* رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}{[2911]} .وقوله:{ عليه توكلت وإليه أنيب}{[2912]} .وقوله:{ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا}{[2913]} .وقوله:{ هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}{[2914]} .وقوله:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ،ومن يتوكل على الله فهو حسبه}{[2915]} .وقوله في الفاتحة:{ إياك نعبد وإياك نستعين}{[2916]} .وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة ،وعلم الفاتحة في هذين الأصلين:عبادة الله والتوكل عليه .وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل .فإنه من عبادة الله .كقوله:{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم}{[2917]} .وقوله:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}{[2918]} .وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه .وهذا كلفظ الإسلام والإيمان .والإيمان والعمل ،ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب .ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر .ونظائر ذلك متعددة .يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا .وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به لخصوصه .ثم قد يقال:إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه .وقد يقال:بل الأمر به خاص وعام ،كما في قوله:{ وملائكته وجبريل وميكال}{[2919]} .وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله ،ثم قال:{ وكفى بالله وكيلا} ،علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه .كما يقال في الخطب والدعاء:الحمد لله كافي من توكل عليه .وإذا كان{ كفى بالله وكيلا} فهذا مختص به سبحانه ليس غيره من الموجودات{ كفى به وكيلا} فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور ،وهو لا يفعلها إلا بإعانة الله ،وهو عاجز عن أكثر المطالب .فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه{ كفى به وكيلا} علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره من جلب المنافع ودفع المضار .إذ لو بقي شيء لم يكن{ كفى به وكيلا} وهذا نقيض قول من ظن أن المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة ولا دفع مضرة ،بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم / يتوكل عليه .والذين ظنوا ،أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئا فلابد أن يكون ،وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ،وأن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة- صاروا يظنون ما يوجد بدونه ،وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع .وهذا غلط عظيم ضل فيه طوائف:طائفة قالت:لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها .بل من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن .ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن ولم يكفر .وهذه الشبهة سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم{[2920]}لما قال: "ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا:أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال:لا! اعملوا ،فكل ميسر لما خلق له ".أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ،وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر لعمل أهل الشقاء .وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ( الصحيح ) في مواضع تبين أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه ،فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا ،والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيا .فالقدر تضمن الغاية وسببها .لم يتضمن غاية بلا سبب .كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة ،وهذا تنبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع .وأمثال ذلك .وكذلك/ في ( السنن ){[2921]} أنه قيل له: "يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها ،ورقى نسترقي بها ،وتقاة نتقيها ،هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال:هي من قدر الله ".فتبين أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من القدر ،ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب .وكذلك قول من قال:( إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا ) هو من هذا الجنس ،لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر ،بخلاف تأثير التوكل .لكن الأصل واحد .وهو النظر إلى المقدور مجردا عن أسبابه ولوازمه .ومن هذا الباب:( أن المقتول يموت بأجله ) عند عامة المسلمين .إلا فرقة من القدرية قالوا:إن القاتل قطع أجله .ثم تكلم الجمهور:لو لم يقتل ؟ قال بعضهم:كان يموت لأن الأجل قد فرغ ؛ وقال بعضهم:لا يموت لانتفاء السبب .وكلا القولين قال به من ينسب إلى السنة ،وكلاهما خطأ .فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا لا بغيره .فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور ،ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب ،أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره ،وأمكن أن يكون القدر أنه لا يموت .فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه .لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها ،ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر .بخلاف ما ليس له إلا سبب واحد .مثل دخول النار .فإنه لا يدخلها إلا من عصى .فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها .وقال تعالى:{ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين* إن ينصركم الله فلا غالب لكم ،وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ،وعلى الله فليتوكل المؤمنون *}{[2922]} ./ فأمره إذا عزم ،أن يتوكل على الله ؛ فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه ،لم يكن لأمره به عند العزم فائدة .بين أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال:{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون}{[2923]} .فنهى عن التوكل على غيره ،وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره .وإلا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر ،فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى ؛ فإنه على هذا القول:نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه .وهذا يناقض مقصود الآية .بل عند هؤلاء:قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من توكل عليه ،فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله:{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ،وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ،وعلى الله فليتوكل المؤمنون} .وكذلك قوله تعالى:{ أليس الله بكاف عبده ،ويخوفونك بالذين من دونه ،ومن يضلل الله فما له من هاد* ...} إلى قوله:{ قل حسبي الله ،عليه يتوكل المتوكلون}{[2924]} فبين أن الله يكفي عبده الذي يعبده ،الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ،الذي هو من عباده المخلصين ،الذي هو من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا{[2925]} .ومثل هذا قوله:{ سبحان الذي أسرى بعبده}{[2926]} .وقوله:{ وأنه لما قام عبد الله يدعوه}{[2927]} / وقوله:{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا}{[2928]} .ونظائر ذلك متعددة .ثم أمره بقوله:{ قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}{[2929]} .وقال تعالى:{ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون}{[2930]} .وكذلك قال عن هود لما قال قومه:{ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} قال:{ إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون* من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون* إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم}{[2931]} فهذا من كلام المرسلين ،مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه .فنوح يقول:{ إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت ...} الآية .فدعاهم ،إذا استعظموا ما يفعله كارهين له ،أن يجتمعوا ثم يفعلون به ما يريدونه من الإهلاك .وقال:{ فعلى الله توكلت} .فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة- وهو توكله على الله- يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته ،لكان قد طلب منهم أن يهلكوه ،وهذا لا يجوز ،وهذا طلب تعجيز لهم .فدل على أنه- بتوكله على الله- يعجزهم عما تحداهم به .وكذلك هود ،يشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله .ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله:{ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون* إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب .فهو يدفعكم عني لأني متوكل / عليه .ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا ،لكان قد أغراهم بالإيقاع به ،ولم يكن لذكره توكله فائدة ،إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه .وهم كانوا أكثر وأقوى منه .فكانوا يهلكونه .وهو لو قال:فإن الله مولاي وناصري- ونحو ذلك- لعلم أنه مخبر أن الله تعالى يدفعهم ،إنما يدفعهم لإيمانه وتقواه ،ولأنه عبده ورسوله .فالله مع رسله وأوليائه ،فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين ،علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة ،تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة .والتوكل من أعظم ذلك .وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضار ،ليس معلقا بالأسباب ،بل يحصل بدونها ،فهو غالط ،وكذلك من جعل ذلك مجرد أمارة وعلامة ،لاقتران هذا بهذا ،فقد أخطأ .فإن الله أخبر أنه فعل هذا بهذا في غير موضع من القرآن ،في خلقه وأمره .كقوله:{ فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات}{[2932]} .وقوله:{ كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}{[2933]} .وقوله:{ بما كنتم تعملون}{[2934]} ،وأنكر على من ظن وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله:{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين}{[2935]} .وقوله:{ أفنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}{[2936]} .وأمثال ذلك .وهؤلاء يقولون بالجبر .قالوا:والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه ،ولا بحكمة .فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر .كما أبطلوا الأسباب / والحكمة .وأبطلوا قدرة العباد .وهم ،وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين به فساد قول القدرية ،فقد ردوا باطلا بباطل ،وقاتلوا بدعة ببدعة .كرد اليهود على النصارى والنصارى على اليهود ،مقالتهم في المسيح ،وكلتا المقالتين باطلة ،وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في علي باطل ،ونظائره متعددة .انتهى .فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة .