{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} فهو القادر على صوغك في أيّة صورةٍ مما يتنوع به الخلق ،فاختار لك هذه الصورة الجميلة المستقيمة المعتدلة التي تجمع الإبداع كله في التكوين الجسديّ والعقليّ والروحيّ .وربما فُسّر ذلكبما ذكره في الميزانأي «في أيّ صورةٍ شاء أن يركّبكولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمةركّبك من ذكرٍ وأنثى ،وأبيض وأسود ،وطويل وقصير ،ووسيم ودميمٍ ،وقويٍّ وضعيفٍ ،إلى غير ذلك ...وكذا الأعضاء المشتركة بين أفراد الإنسان المميزة لها من غيرها كاليدين والرجلين والعينين والرأس والبدن واستواء القامة ونحوها ،فكل ذلك من عدل بعض الأجزاء ببعض في التركيب »[ 5] .
عظمة الإبداع في الخلق
وقد لا يكفي في تفسير هذه الآيات هذه الكلمات التي تتحدث عن الموضوع بصورةٍ عامة ،فقد نحتاج إلى الإطلالة على بعض التفاصيل عن بعض الأسرار التي أودعها الله في الأجهزة التي ركّبها في الإنسان مما يوحي بعظمة الإبداع في الخلق .
فقد جاء في مجلة العلوم الإنجليزية ،في ما نقله عبد الرزّاق نوفل ،في كتابه «الله والعلم الحديث »: «إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة ،وإنه من الصعب جداًبل من المستحيلأن تُبتكَر آلةٌ تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيّف .فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك ،ثم تثبته في الموضع الملائم للقراءة .وهذه اليد هي التي تصحِّح وضعه تلقائياً ،وحينما تقلِّب إحدى صفحاته تطبع أصابعك تحت الورقة ،وتضغط عليها بالدرجة التي تقلّبها بها ،ثم يزول الضغط بقلب الورقة .واليد تمسك القلم وتكتب به ،وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان ،من ملعقة ،إلى سكين ،إلى آلة الكتابة ،وتفتح النوافذ وتغلقها ،وتحمل كل ما يريده الإنسان ..واليدان تشتملان على 27 عظمة و19 مجموعة من العضلات لكل منها »[ 6] .
إبداع خلق الأذن
وجاء في كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان »:
«إن جزءاً من أذن الإنسان «الأذن الوسطى » هو سلسلةٌ من أربعة آلاف جنيّةٍ «قوس » دقيقة معقّدةٍ متدرّجةٍ بنظام بالغ ،في الحجم والشكل ،ويمكن القول بأن هذه الجنيّات تشبه آلة موسيقيّةً ،ويبدو أنها معدّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخبشكل ما كل وقعٍ أو صوتٍ أو ضجّةٍ ،من قصف الرعد إلى حفيف الشجر ،فضلاً عن المزيج الرائع من أنغام كل أداةٍ موسيقيةٍ في الأركسترا ووحدتها المنسجمة »[ 7] .
إبداع خلق البصر والذوق والجهاز العصبي
وجاء في كتاب «الله والعلم الحديث »: «مركز حاسّة الإبصار العين التي تحتوي على 130 مليوناً من مستقبلات الضوء وهي أطراف أعصاب الإبصار ،ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً ونهاراً ،والذي تعتبر حركته لا إرادية ،الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة ،كما يكسر من حدة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال .وحركة الجفن ،علاوةً على هذه الوقاية ،تمنع جفاف العين ،أمّا السائل المحيط بالعين ،والذي يعرف باسم الدموع فهو أقوى مطهّر »[ 8] .
«وجهاز الذوق في الإنسان ،ويرجع عمله إلى مجموعاتٍ من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي .ولتلك الحلمات أشكالٌ مختلفة ،فمنها: الخيطيّة ،والفطرية ،والعدسية ،ويغذي الحلمات فروعٌ من العصب اللساني البلعومي ،والعصب الذوقي ،وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية ،فينتقل الأثر إلى المخ .وهذا الجهاز موجودٌ في أوّل الفم ،حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحسّ أنه ضارٌّ به ،وبه يحسّ المرء المرارة والحلاوة ،والبرودة والسخونة ،والحامض والملح ،واللاذع ونحوه .ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة ،يتصل كل نتوءٍ بالمخ بأكثر من عصبٍ ،فكم عدد الأعصاب ؟وما حجمها ؟وكيف تعمل منفردةً ،وتتجمع بالإحساس عند المخ »[ 9] .
و«يتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرةً تامّةً من شعيراتٍ دقيقةٍ تمر في كافة أنحاء الجسم ،وتتصل بغيرها أكبر منها .وهذه تسمّى بالجهاز المركزي العصبي ،فإذا ما تأثر جزءٌ من أجزاء الجسم ،ولو كان ذلك لتغيّر بسيطٍ في درجة الحرارة بالجو المحيط ،نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم ،وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف ،وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب 100 متر في الثانية »[ 10] .
إبداع عمليّة الهضم
«ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عمليّة في معملٍ كيمياوي ،وإلى الطعام الذي نأكله على أنه موادٌ غفلٌ ،فإننا ندرك توّاً أنه عمليّةٌ عجيبةٌ ،إذ تهضم تقريباً كل شيء ما عدا المعدة نفسها !فأوّلاً نضع في هذا المعمل أنواعاً من الطعام كمادّةٍ غفلٍ دون أيّ مراعاةٍ للمعمل نفسه ،أو تفكيرٍ في كيفية معالجة كيمياء الهضم له !فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقليّ ،وندفعها بأيّ قدرٍ من الماء .ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدةٍ ،وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيمياوية دون مراعاةٍ للفضلات ،وتعيد تكوين الباقي إلى بروتيناتٍ جديدةٍ تصبح غذاءً لمختلف الخلايا .وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية ،وتعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية ،وبإمكان إنتاج الهرمونات ،وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرةً في مقادير منتظمةٍ ومستعدةً لمواجهة كل ضرورةٍ .وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى للقاء كل حالةٍ طارئةٍ ،مثل الجوع ،وتفعل ذلك كله ،بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله .
«إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في المعمل الكيماوي ،بصرف النظر كليّةً تقريباً عما نتناوله ،معتمدين على ما نحسبه عمليّةً ذاتيةً «أوتوماتيكيةً » لإبقائنا على الحياة .وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديدٍ ،تقدَّم باستمرارٍ إلى كل خلية من بلايين الخلايا ،التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض ،ويجب أن يكون التوريد إلى كل خليّةٍ فرديةٍ مستمراً ،وألاّ يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظامٍ وأظافر ولحم وشعرٍ وعينين وأسنان ،كما تتلقاها الخلية المختصة .
فها هناإذاًمعمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان !وها هنا َنظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم !ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام »[ 11] .
معجزة خلق الذاكرة والإدراك العقلي
وتبقى للإنسان بعد ذلك قيمة حركة الإدراك العقلي الذي يجمع كل هذه الصور والإيحاءات والمقروءات ويؤلف بينها ،ويختزنها في أجهزته الصغيرةK ويستنتج منها أفكاراً جديدة ،ومعلوماتٍ جديدةً .ويبقى للذاكرة دورها الكبير في إبقاء كل هذه المفردات لتكون الخزان الذي يمد الإنسان بما يريد في حركة العلم في خط الحياة الخاصة والعامة ،الأمر الذي يبعث على الدهشة لو لم يكن شيئاً مألوفاً .إذ كيف يمكن لهذه المنطقة الصغيرة التي لا تمثل شيئاً في الحجم ،أن تختزن مثل هذه المعلومات التي تنطلق من عمر الإنسان كله وتحتاج إلى ملايين الأمتار من الأشرطة لتسجّل عليها ،وكيف تكون عملية الإثارة التي تفتح النافذة على ذلك كله عند الحاجة إليها ،ولقد صدق القائل وهو يخاطب الإنسان ويوحي بعظمة خلقه:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وهكذا يريد الله من الإنسان أن يكتشف ذلك كله ،ويتذكره ويعيشه ،فيتحسسّ وجوده المادي الممتزج بالروح ،هذا الشيء الغامض الخفيّ الذي يتمثل في الآفاق الرائعة التي تنفتح على كل المعاني الروحية التي ترفع الإنسان إلى آفاق الله ،فيؤدي ذلك إلى طاعة الله والاستمرار في السير في خط منهجه الذي أراد للناس أن يتخذوه منهجاً لكل أوضاعهم العامة والخاصة في الحياة ،فلا ينحرفون عنه اغتراراً بما يفيض عليهم من نعمه ليتصوّروا أنهم بمنجاةٍ من عقابه ،ليتجرأوا عليه في تكذيب رسله .