{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} وهذه المسألة الثانية التي تعهّد الله لرسوله أن ييسرها له ،وأن يعدّ شخصيته الرسولية إعداداً قويّاً منفتحاً على الناس كلهم والحياة كلها ،بروحه الطيّبة الطاهرة الحنون العطوف الرؤوف بالمؤمنين وبكل الناس الذين هم الساحة الطبيعية لدعوته ،وبأخلاقه المتوازنة التي تتحرك في علاقته بالأفراد والمجتمعات من موقع الرحمة والرأفة ،والحرص عليهم والتحسس العميق بآلامهم وآمالهم ومشاكلهم ،والصبر على نوازعهم السلبية وأوضاعهم الملتوية ،وبكلماته الطيبة الحلوة التي تمثل التعبير الأحسن والمعنى الأحسن والأسلوب الأحسن ،والجدال{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ،والدفع{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ،[ النحل:125] من دون أن يؤثر ذلك سلبياً على جدّية الموقف وصلابة الفكرة ،وبشخصيته الأصيلة في صفاته الذاتية ،كإنسانٍ يعيش إنسانيته في نفسه ومع أهله ومع الناس ،فلا يرى الناس منه إلا كل خير في صبره على الأذى وعفوه عمّن أساء إليه ،وتعاليه عن القضايا الصغيرة ،وانفتاحه على الآفاق الكبيرة الواسعة .
وهكذا أتاح الله له ،أن يكون الرسول الإنسان الذي يفيض على الحياة كلها باليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور ،من خلال أن هذه المعاني هي صفة الرسالة كما هي صفة الرسول ،فقد أراد الله بالناس اليسر ولم يرد بهم العسر ،ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ،وبذلك ،كانت شخصيته منطبعة بشخصية الرسالة التي قال عنها: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة »[ 11] .وهكذا يسّره الله للشريعة اليسرى ،وللعقيدة اليسرى في بساطتها وصفائها ونقائها ،كما يسّره للطريقة اليسرى في تبليغه للرسالة وفي مواجهته للمشاكل ،وفي انفتاحه على الناس كلهم ،ليكون ذلك أساساً للدخول إلى قناعتهم من أقرب طريق ،وللتأثير في أوضاعهم لتغييرها إلى الأفضل ،بأفضل الأساليب الميسّرة .
وهذا ما نستوحيه كعمل للدعاة إلى الله في تربيتهم لشخصياتهم على اليسر والرفق والسماحة واللين ،والتوازن الأخلاقي والعملي بالمستوى الذي ييسر لهم الدخول إلى قلوب الناس من موقع المحبة ،وإلى أفكارهم من موقع اليسر الفكري والتعبيري ،وإلى حياتهم من موقع اليسر العملي ،بحيث يعملون على تقديم الإسلام إلى الناس في عقيدته وشريعته ومنهجه ومواقفه السياسية والاجتماعية والجهادية في هذا الاتجاه ،ليحبّبوه إليهم في صورته الميسّرة ،بدلاً من أن يفرضوا مزاجهم المعقّد القاسي عليهم في خط الدعوة والحركة والموقف ،كما يفعل بعض المبلّغين الذين يرون في مهمّة الدعوة مهنةً تقليديةً ،يؤدّونها إلى الناس بشكل جامدٍ لا يخلو من القسوة والعسر والتعقيد ،فإذا لم يتجاوب الناس معهم ،اتهموهم بالبعد عن الحق وعن الدين والرفض لمفاهيمه وأحكامه ومناهجه ،بدلاً من أن يتهموا أنفسهم بالبعد عن اليسر في أسلوبهم وفي شخصياتهم وفي طريقتهم في إدارة العلاقات مع الناس .
وقد قصَّ الله علينا أخلاقية الرسول في شخصية الإنسان الداعية ،فقال سبحانه:{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [ الطارق: 4] ،وقال سبحانه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [ آل عمران:159] ،وقال سبحانه في صفته وصفة رسالته:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغلالَ الَّتي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [ الأعراف:157] .
فقد كان خلقه عظيماً ،بحيث تحوّل إلى تجسيد عمليٍّ في حركة رسالته ،في ما يختزنه من عمق الرحمة القلبية التي كانت رحمةً من الله لهم ،في ما تمثل به أسلوبه من اللين في الكلمة والنظرة والمعاملة المنطلقة من الرقّة في المشاعر القلبية ،وعمل على أن يضع عن الناس الأثقال التي أثقلت حياتهم ،والأغلال التي كانت تكبّلهم .وهكذا ،أرادنا الله أن نجعله القدوة كما التزمناه نبياً في إبلاغ الرسالة ،فقال سبحانه:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [ الأحزاب:21] .ما يفرض على الدعاة إلى الله أن يعيشوا الروح النقية الطاهرة كما عاشها في انفتاحه بالرحمة على الناس كلهم ،وأن يبلّغوا بالأسلوب الطيّب الأحسن كما بلّغ ،وأن يكون نهجهم النهج القرآني في تيسير الفكرة والأسلوب والدعوة كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [ القمر:22] .