)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) ( البقرة:13 )
التفسير: .
قوله تعالى:{وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس}: القائل هنا مبهم للعموم .أي ليعم أيَّ قائل كان ؛والكاف للتشبيه ،و"ما "مصدرية .أي كإيمان الناس ؛والمراد ب{الناس} هنا الصحابة الذين كانوا في المدينة ،وإمامهم النبي صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى:{قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}؛الاستفهام هنا للنفي ،والتحقير ؛والمعنى: لا نؤمن كما آمن السفهاء ؛وربما يكون أيضاً مضمناً معنى الإنكار .أي أنهم ينكرون على من قال:{آمنوا كما آمن الناس}؛وهذا أبلغ من النفي المحض ؛و{السفهاء}: الذين ليس لهم رشد ،وعقل ؛والمراد بهم هنا أصحاب النبيصلى الله عليه وسلم .على حدّ زعم هؤلاء المنافقين ؛فقال الله تعالى .وهو العليم بما في القلوب .رداً على هؤلاء:{ألا إنهم هم السفهاء}: وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات:{ألا} ،و"إن "،وضمير الفصل:{هم} ،وهو أيضاً مفيد للحصر ؛وهذه الجملة كالتي قبلها في قوله تعالى:{ألا إنهم هم المفسدون} ..
قوله تعالى:{ولكن لا يعلمون} أي لا يعلمون سفههم ؛فإن قيل: ما الفرق بين قوله تعالى هنا:{ولكن لا يعلمون} ،وقوله تعالى فيما سبق:{ولكن لا يشعرون} ؟
فالجواب: أن الإفساد في الأرض أمر حسي يدركه الإنسان بإحساسه ،وشعوره ؛وأما السفه فأمر معنوي يدرك بآثاره ،ولا يُحَسُّ به نفسِه ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: أن المنافق لا تنفعه الدعوة إلى الخير ؛لقوله تعالى:{وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}؛فهم لا ينتفعون إذا دعوا إلى الحق ؛بل يقولون:{أنؤمن كما آمن السفهاء )
. 2ومنها: إعجاب المنافقين بأنفسهم ؛لقولهم: ( أنؤمن كما آمن السفهاء )
. 3ومنها: شدة طغيان المنافقين ؛لأنهم أنكروا على الذين عرضوا عليهم الإيمان:{قالوا أنؤمن}؛وهذا غاية ما يكون من الطغيان ؛ولهذا قال الله تعالى في آخر الآية:{في طغيانهم يعمهون} [ البقرة: 15] ..
. 4ومنها: أن أعداء الله يصفون أولياءه بما يوجب التنفير عنهم لقولهم:{أنؤمن كما آمن السفهاء}؛فأعداء الله في كل زمان ،وفي كل مكان يصفون أولياء الله بما يوجب التنفير عنهم ؛فالرسل وصفهم قومهم بالجنون ،والسحر ،والكهانة ،والشعر تنفيراً عنهم ،كما قال تعالى:{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [ الذاريات: 52] ،وقال تعالى:{وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} [ الفرقان: 31] وورثة الأنبياء مثلهم يجعل الله لهم أعداء من المجرمين ،ولكن{وكفى بربك هادياً ونصيراً} [ الفرقان: 31]؛فمهما بلغوا من الأساليب فإن الله تعالى إذا أراد هداية أحد فلا يمنعه إضلال هؤلاء ؛لأن أعداء الأنبياء يسلكون في إبطال دعوة الأنبياء مَسْلكين ؛مسلك الإضلال ،والدعاية الباطلة في كل زمان ،ومكان ؛ثم مسلك السلاح .أي المجابهة المسلحة ؛ولهذا قال تعالى:{هادياً} [ الفرقان: 31] في مقابل المسلك الأول الذي هو الإضلال .وهو الذي نسميه الآن بالأفكار المنحرفة ،وتضليل الأمة ،والتلبيس على عقول أبنائها ؛وقال تعالى:{ونصيراً} [ الفرقان: 31] في مقابل المسلك الثاني .وهو المجابهة المسلحة ..
. 5 ومن فوائد الآية: أن كل من لم يؤمن فهو سفيه ،كما قال الله تعالى:{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [ البقرة: 130] ..
. 6ومنها: أن الحكمة كل الحكمة إنما هي الإيمان بالله ،واتباع شريعته ؛لأن الكافر المخالف للشريعة سفيه ؛فيقتضي أن ضده يكون حكيماً رشيداً ..
. 7ومنها: تحقيق ما وعد الله به من الدفاع عن المؤمنين ،كما قال تعالى:{إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [ الحج: 38]؛فإذا ذموا بالقول دافع الله عنهم بالقول ؛فهؤلاء قالوا:{أنؤمن كما آمن السفهاء} ،والله عزّ وجلّ هو الذي جادل عن المؤمنين ،فقال:{ألا إنهم هم السفهاء} يعني هم السفهاء لا أنتم ؛فهذا من تحقيق دفاع الله تعالى عن المؤمنين ؛أما دفاعه عن المؤمنين إذا اعتُدي عليهم بالفعل فاستمع إلى قول الله تعالى:{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} [ الأنفال: 12]: هذه مدافعة فعلية ،حيث تنْزل جنود الله تعالى من السماء لتقتل أعداء المؤمنين ؛فهذا تحقيق لقول الله تعالى:{إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [ الحج: 38]؛ولكن الحقيقة أن هذا الوعد العظيم من القادر جل وعلا الصادق في وعده يحتاج إلى إيمان حتى نؤمن بالله عزّ وجلّ ،ولا نخشى أحداً سواه ،فإذا ضعف الإيمان أصبحنا نخشى الناس كخشية الله ،أو أشد خشية ؛لأننا إذا كنا نراعيهم دون أوامر الله فسنخشاهم أشد من خشية الله عزّ وجلّ ؛وإلا لكنا ننفذ أمر الله عزّ وجلّ ،ولا نخشى إلا الله سبحانه وتعالى ..
فنحن لو آمنا حقيقة الإيمان بهذا الوعد الصادق الذي لا يُخلَف لكنا منصورين في كل حال ؛لكن الإيمان ضعيف ؛ولهذا صرنا نخشى الناس أكثر مما نخشى الله عزّ وجلّ ؛وهذه هي المصيبة ،والطامة العظيمة التي أصابت المسلمين اليوم ؛ولذلك تجد كثيراً من ولاة المسلمين .مع الأسف .لا يهتمون بأمر الله ،ولا بشريعة الله ؛لكن يهتمون بمراعاة فلان ،وفلان ؛أو الدولة الفلانية ،والفلانية .ولو على حساب الشريعة الإسلامية التي من تمسك بها فهو المنصور ،ومن خالفها فهو المخذول ؛وهم لا يعرفون أن هذا هو الذي يبعدهم من نصر الله ؛فبدلاً من أن يكونوا عبيداً لله أعزة صاروا عبيداً للمخلوقين أذلة ؛لأن الأمم الكافرة الكبرى لا ترحم أحداً في سبيل مصلحتها ؛لكن لو أننا ضربنا بذلك عُرض الحائط ،وقلنا: لا نريد إلا رضى الله ،ونريد أن نطبق شريعة الله سبحانه وتعالى على أنفسنا ،وعلى أمتنا ؛لكانت تلك الأمم العظمى تهابنا ؛ولهذا يقال: من خاف الله خافه كل شيء ،ومن خاف غير الله خاف من كل شيء ..
. 8 .ومن فوائد الآية: الدلالة على جهل المنافقين ؛لأن الله عزّ وجلّ نفى العلم عنهم ؛لقوله تعالى:{ولكن لا يعلمون}؛فالحقيقة أنهم من أجهل الناس .إن لم يكونوا أجهل الناس ؛لأن طريقهم إنما هو خداع ،وانخداع ،وتضليل ؛وهؤلاء المنافقون من أجهل الناس ؛لأنهم لم يعلموا حقيقة أنفسهم ،وأنهم هم السفهاء ..