{ )وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة:188 )
التفسير:
مناسبة هذه الآية لما سبق مناسبة واضحة ؛لأن ما سبق في آيات الصيام تحريم لأشياء خاصة في زمان خاص ؛وهذه الآية تحريم عام في زمانه ،وفي مكانه ؛هذا وجه المناسبة: أنه لما ذكر التحريم الخاص الذي يحصل في الصيام بيَّن التحريم العام الذي يحصل في الصيام ،وفي غير الصيام .
قوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}؛المراد بالأكل ما هو أعم منه ،فيشمل الانتفاع بغير الأكل من الملبوسات ،والمفروشات ،والمسكونات ،والمركوبات ؛لكنه خَص الأكل ؛لأنه أقوى وجوه الانتفاع ؛الإنسان ينتفع في المال ببناء مسكن له - وهو منفصل عنه - ؛ويفترش الفراش فينتفع به - وهو منفصل عنه إلا أنه ألصق به من البيت ؛ويلبس ثوباً فينتفع به - وهو منفصل عنه - ؛إلا أنه ألصق به من الفراش ؛والإنسان يأكل الأكل فينتفع - وهو متصل ممازج لعروقه - ؛فكان أخص أنواع الانتفاع ،وألصقها بالمنتفع ؛ولهذا ذكر بعض أهل العلم - رحمهم الله - أن الإنسان إذا كان عنده مال مشتبه ينبغي أن يصرفه في الوقود ؛لا يصرفه في الأكل والشرب يتغذى بهما البدن وهما أخص انتفاع بالمال ؛فإذا كان الله تعالى يقول:{لا تأكلوا أموالكم} وهو أخص الانتفاع ،والذي قد يكون الإنسان في ضرورة إليه: لو لم يفعل لهلك - لو لم يأكل لمات فكيف بغيره !!!
وقوله تعالى:{أموالكم}: عندنا آكل ومأكول عنه ؛فإذا كنت أنت أيها الآكل لا ترضى أن يؤكل مالك فكيف ترضى أن تأكل مال غيرك ؛فاعتبر مال غيرك بمنزلة مالك في أنك لا ترضى أن يأكله أحد ؛وبهذا تتبين الحكمة في إضافة الأموال المأكولة للغير إلى آكلها ؛و{بينكم} أي في العقود من إجارات ،وبيوع ،ورهون ،وغيرها ؛لأن هذه تقع بين اثنين ؛فتصدق البينية فيها .
وقوله تعالى:{بالباطل}؛الباء للتعدية ؛أي تتوصلون إليه بالباطل ؛و «الباطل » كل ما أخذ بغير حق .
قوله تعالى:{وتدلوا بها إلى الحكام}؛الضمير المجرور يعود إما على الأموال ؛وإما على المحاكمة ؛والإدلاء أصلها مأخوذ من: أدلى دلوه ؛ومعلوم أن الذي يدلي دلوه يريد التوصل إلى الماء ؛فمعنى:{تدلوا بها إلى الحكام} أي تتوصلوا بها إلى الحكام لتجعلوا الحكام وسيلة لأكلها بأن تجحد الحق الذي عليك وليس به بينة ؛ثم تخاصمه عند القاضي ،فيقول القاضي للمدعي عليك: «هاتِ بينة » ؛وإذا لم يكن للمدعي بينة توجهت عليك اليمين ؛فإذا حلفت برئت ؛فهنا توصلت إلى جحد مال غيرك بالمحاكمة ؛هذا أحد القولين في الآية ؛والقول الثاني: أن معنى:{تدلوا بها إلى الحكام} أي توصلوها إليهم بالرشوة ليحكموا لكم ؛وكلا القولين صحيح .
قوله تعالى:{لتأكلوا}؛قد يقول قائل: إن فيها إشكالاً ؛لأنه تعالى قال:{ولا تأكلوا} ،ثم قال تعالى:{لتأكلوا} كيف يعلل الحكم بنفس الحكم ؟فنقول: إن اللام هنا ليست للتعليل ؛اللام هنا للعاقبةيعني أنكم إذا فعلتم ذلك وقعتم في الأكلأكل فريق من أموال الناس؛وتأتي اللام للعاقبة ،كما في قوله تعالى:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [ القصص: 8]: فآل فرعون لم يلتقطوه لهذا الغرض ؛ولكن كانت هذه العاقبة .
قوله تعالى:{فريقاً من أموال الناس}؛الفريق بمعنى الطائفة ؛وسمي فريقاً ؛لأنه يُفْرَق عن غيره ؛فهذا فريق من الناسيعني طائفة منهم افترقت ،وانفصلت؛لو قال قائل: قد يأكل كل مال المدعى عليه لا فريقاً منه ؟فالجواب من وجهين:
الأول: أنه لو أكل جميع مال المدعى عليه لم يأكل جميع أموال الناس ؛لأن مال المدعى عليه فريق من أموال الناس .
الثاني: أنه إذا كان النهي عن أكل فريق من أموال المدعى عليه فهو تنبيه بالأدنى على الأعلى .
قوله تعالى:{بالإثم}؛الباء للمصاحبة ؛يعني أكلاً مصحوباً بالإثموهو الذنب؛وذلك لأنه باطل .
قوله تعالى:{وأنتم تعلمون}: الجملة حالية ؛وهي قيد للحكم على أعلى أنواع بشاعته ؛لأن من أكل أموال الناس بالباطل عالماً أبشع مما لو أكله جاهلاً .
الفوائد:
1من فوائد الآية: تحريم أكل المال بالباطل ؛و«الباطل » كل شيء ليس لك به حق شرعاً .
2ومنها: حرص الشارع على حفظ الأموال ؛لقوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}؛ولأن الأموال تقوم بها أمور الدين ،وأمور الدنيا ،كما قال تعالى:{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [ النساء: 5] .
3ومنها: تحريم الرشوة ؛لقوله تعالى:{وتدلوا بها إلى الحكام} على أحد التفسيرين ،كما سبق .
4ومنها: أن الحاكم يحكم بما ظهر لهيعني يقضي بما سمع؛كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع »{[302]} ؛لقوله تعالى:{وتدلوا بها إلى الحكام}؛وهذه فيمن يدعي ما ليس له ،ويخاصم ،ويقيم بينة كذباً ؛أو يجحد ما عليه ،ويخاصم ،ويحلف كاذباً ؛كل هذا من الإدلاء بها إلى الحكام ؛لكن إن علم الحاكم أن الحق بخلاف ما سمع فالواجب عليه التوقف في الحكم ،وإحالة القضية إلى حاكم آخر ليكون هو شاهداً بما علم .
5ومن فوائد الآية: تيسير الله سبحانه وتعالى على الحكام بين الناس ،حيث لا يعاقبهم على الأمور الباطنة ؛وإلا لكان الحكام في حرج ،ومشقة ؛وجه ذلك من الآية أن الحاكم إذا حكم بما ظهر لهوإن كان خلاف الواقع - فلا إثم عليه .
6ومنها: أن من حُكم له بما يعتقد أنه حق فلا إثم عليه ؛لكن لو تبين له بعد الحكم أنه لا حق له وجب عليه الرجوع إلى الحق ؛مثاله: لو فرض أن غريمه أوفاه ؛لكنه ناسٍ ،وحلف أنه لم يوفه ،وحُكم له فلا إثم عليه ؛لكن متى ذكر أنه قد أوفي وجب عليه رد المال إلى صاحبه .