{ )أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ( البقرة:187 )
التفسير:
قوله تعالى:{أحل لكم} أي أحل الله لكم ؛ونائب الفاعل فيه:{الرفث إلى نسائكم}؛و{الرفث} هو الجماع ،والإفضاء ؛والمراد ب{ليلة الصيام} جميع ليالي رمضان ؛{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}: الجملة استئنافية للتعليلأي تعليل حل الرفث إلى النساء ليلة الصياملأن الزوج لا يستغني عن زوجه فهو لها بمنزلة اللباس ؛وكذلك هي له بمنزلة اللباس ؛وعبر سبحانه باللباس لما فيه من ستر العورة والحماية والصيانة ؛وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر ،وأحصن للفرج »{[289]} .
ثم بيَّن الله عز وجل حكمة أخرى موجبة لهذا الحل ؛وهي قوله تعالى:{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} أي تخادعونها بإتيانهن ،بحيث لا تصبرون ؛والظاهروالله أعلمأن هذا الاختيان بكون الإنسان يفتي نفسه بأن هذا الأمر هين ؛أو بأنه صار في حال لا تحرم عليه زوجته ؛وما أشبه ذلك ؛وأصل هذا أنهم كانوا في أول الأمر إذا صلى أحدهم العشاء الآخرة ،أو إذا نام قبل العشاء الآخرة فإنه يحرم عليه الاستمتاع بالمرأة والأكل والشرب إلى غروب الشمس من اليوم التالي ؛فشق عليهم ذلك مشقة عظيمة حتى إن بعضهم لم يصبر ؛فبين الله عز وجل حكمته ،ورحمته بنا ،حيث أحل لنا هذا الأمر ؛ولهذا قال تعالى:{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} .
قوله تعالى:{فتاب عليكم}: أي تاب عليكم بنسخ الحكم الأول الذي فيه مشقة ؛والنسخ إلى الأسهل توبة كما في قوله تعالى في سورة المزمل:{علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} [ المزمل: 20]؛فيعبر الله عز وجل عن النسخ بالتوبة إشارة إلى أنه لولا النسخ لكان الإنسان آثماً إما بفعل محرم ؛أو بترك واجب .
قوله تعالى:{وعفا عنكم} أي تجاوز عما وقع منكم من مخالفة .
قوله تعالى:{فالآن باشروهن}: الفاء حرف عطف تقتضي الترتيب - يعني فالآن بعد التحريم ،وبعد تحقيق التوبة ،والعفو باشروهن ؛وكلمة «الآن » اسم إشارة إلى الزمن الحاضر ؛وهي مبنية على الفتح في محل نصب ؛والمراد بالمباشرة الجماع ؛وسمي كذلك لالتقاء البشرتين فيه - بشرة المرأة ،وبشرة الرجل - .
قوله تعالى:{وابتغوا ما كتب الله لكم} أي اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد ؛وذلك بالجماع الذي يحصل به الإنزال .
قوله تعالى:{وكلوا واشربوا} معطوفة على قوله تعالى:{باشروهن} أي لكم الأكل ،والشرب .
قوله تعالى:{حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} أي حتى يظهر ظهوراً جلياً يتميز به{الخيط الأبيض} وهو بياض النهار{من الخيط الأسود} وهو سواد الليل .
قوله تعالى{من الفجر} بيان لمعنى{الخيط الأبيض}؛ولم يذكر في الخيط الأسود «من الليل » اكتفاءً بالأول ،كما في قوله تعالى:{وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} [ النحل: 81] يعني: والبرد ؛فهذا من باب الاكتفاء بذكر أحد المتقابلين عن المقابل الآخر .
قوله تعالى:{ثم أتموا الصيام} أي أكملوا الصيام على وجه التمام ؛{إلى الليل} أي إلى دخول الليل ؛وذلك بغروب الشمس ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا - وأدبر النهار من هاهنا - وغربت الشمس فقد أفطر الصائم »{[290]} ؛وبمجرد غروب الشمس - أي غروب قرصها - يكون الإفطار ؛وليس بشرط أن تزول الحمرة ،كما يظن بعض العوام ؛إذاً الصوم محدود: من ،وإلى ؛فلا يزاد فيه ،ولا ينقص ؛وسيأتي إن شاء الله تعالى - في الفوائد حكم الوصال .
قوله تعالى:{ولا تباشروهن} أي ولا تجامعوهن ؛وذكرها عقب قوله تعالى:{فالآن باشروهن} لئلا يظن أن المباشرة المأذون فيها شاملة حال الاعتكاف ؛والضمير «هن » يعود على النساء ؛وجملة:{وأنتم عاكفون في المساجد} حال من الواو في قوله تعالى:{لا تباشروهن}؛و{عاكفون} اسم فاعل من عكف يعكف ؛والعكوف على الشيء ملازمته ،والمداومة عليه ؛ومنه قول إبراهيم عليه السلام لقومه:{ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [ الأنبياء: 52] أي مديمون ملازمون ؛والاعتكاف في الشرع هو التعبد لله سبحانه وتعالى بلزوم المساجد لطاعة الله .
قوله تعالى:{تلك حدود الله}؛«تي » اسم إشارة ؛واللام للبعد ؛والكاف حرف خطاب ؛والمشار إليه ما ذُكر من أحكام الأكل ،والشرب ،والجماع في ليالي رمضان ؛و{حدود} جمع حد ؛و«الحد » في اللغة المنع ؛ومنه حدود الدار ؛لأنها تمنع من دخول غيرها فيها ؛فمعنى{حدود الله} أي موانعه ؛واعلم أن حدود الله نوعان:
1حدود تمنع من كان خارجها من الدخول فيها ؛وهذه هي المحرمات ؛ويقال فيها:{فلا تقربوها} .
2وحدود تمنع من كان فيها من الخروج منها ؛وهذه هي الواجبات ؛ويقال فيها:{فلا تعتدوها} .
قوله تعالى:{فلا تقربوها} الفاء للتفريع ؛و «لا » ناهية ؛وإنما نهى عن قربانها حتى نبعد عن المحرم ،وعن وسائل المحرم ؛لأن الوسائل لها أحكام المقاصد ؛وكم من إنسان حام حول الحمى فوقع فيه ؛ولهذا قال تعالى:{فلا تقربوها}؛فالمحرمات ينبغي البعد عنها ،وعدم قربها .
قوله تعالى:{كذلك يبين الله}: هذه الجملة ترد في القرآن كثيراً ؛وإعرابها أن الكاف اسم بمعنى «مثل » ؛وهي في محل نصب على المفعولية المطلقة ؛أي مثلَ ذلك البيان يبين الله ؛وعاملها ما بعدها .
وقوله تعالى:{كذلك} المشار إليه ما سبق من البيان ؛والبيان في هذه الآية كثير ؛فبين الله سبحانه وتعالى حكم الأكل ،والشرب في الليل ،وحكم المباشرة للنساء ،وحكم الاعتكاف ،وموضعه ،وما يحرم فيه ..إلخ ،المهم عدة أحكام بينها الله .
قوله تعالى:{آياته للناس}؛«آيات » جمع آية ؛وهي في اللغة العلامة ؛والمراد بها في الشرع: العلامة المعينة لمدلولها .
قوله تعالى:{لعلهم يتقون}؛«لعل » للتعليل ؛أي يتقون الله عز وجل وتقوى الله سبحانه وتعالى هي اتخاذ وقاية من عذابه بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه ؛وهذا أجمع ما قيل في «التقوى » .
الفوائد:
1من فوائد الآية: رحمة الله تعالى بعباده ؛لنسخ الحكم الأول إلى التخفيف ،حيث كانوا قبل ذلك إذا ناموا ،أو صلّوا العشاء في ليالي رمضان حرمت عليهم النساء ،والطعام ،والشراب إلى غروب الشمس من اليوم التالي ؛ثم خفف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر .
2ومنها: جواز الكلام بين الزوج وزوجته فيما يستحيا منه ؛لقوله تعالى:{الرفث إلى نسائكم}؛لأنه مُضَمن معنى الإفضاء .
3ومنها: جواز استمتاع الرجل بزوجته من حين العقد ؛لقوله تعالى:{إلى نسائكم} ما لم يخالف شرطاً بين الزوجين ؛وقد ظن بعض الناس أنه لا يجوز أن يستمتع بشيء من زوجته حتى يعلن النكاحوليس بصحيح لكن هنا شيء يخشى منه ؛وهو الجماع ؛فإنه ربما يحصل حمل ؛وإذا حصل حمل مع تأخر الدخول ربما يحصل في ذلك ريبة ؛فإذا خشي الإنسان هذا الأمر فليمنع نفسه لئلا يحصل ريبة عند العامة .
4ومن فوائد الآية: أن الزوجة ستر للزوج ؛وهو ستر لها ؛وأن بينهما من القرب كما بين الثياب ،ولابسيها ؛ومن التحصين للفروج ما هو ظاهر ؛لقوله تعالى:{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} .
5ومنها: إثبات العلة في الأحكام ؛لقوله تعالى:{هن لباس لكم}؛لأن هذه الجملة لتعليل التحليل .
6ومنها: ثبوت علم الله بما في النفوس ؛لقوله تعالى:{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} .
7ومنها: أن الإنسان كما يخون غيره قد يخون نفسه ؛وذلك إذا أوقعها في معاصي الله ،فإن هذا خيانة ؛وعلى هذا فنفس الإنسان أمانة عنده ؛لقوله تعالى:{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} .
8ومن فوائد الآية: إثبات التوبة لله ؛لقوله تعالى:{فتاب عليكم}؛وهذه من الصفات الفعلية .
9ومنها: إثبات عفو الله ؛لقوله تعالى:{وعفا عنكم} .
10ومنها: ثبوت النسخ خلافاً لمن أنكره ؛وهو في هذه الآية صريح ؛لقوله تعالى:{فالآن باشروهن} يعني: وقبل الآن لم يكن حلالاً .
11ومنها: أن النسخ إلى الأخف نوع من التوبة إلا أن يراد بقوله تعالى:{تاب عليكم وعفا عنكم} ما حصل من اختيانهم أنفسهم .
12ومنها: جواز مباشرة الزوجة على الإطلاق بدون تقييد ؛ويستثنى من ذلك الوطء في الدبر ،والوطء حال الحيض ،أو النفاس .
13ومنها: أنه ينبغي أن يكون الإنسان قاصداً بوطئه طلب الولد ؛لقوله تعالى:{وابتغوا ما كتب الله لكم}؛وذكروا عن عمر رضي الله عنه أنه لا يجامع إلا إذا اشتهى الولد ؛ولكن مع ذلك لا يمنع الإنسان أن يفعل لمجرد الشهوة ؛فهذا ليس فيه منع ؛بل فيه أجر ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة ،قالوا: يا رسول الله !أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟قال: نعم ؛أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر ؟قالوا: نعم ؛قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر »{[291]} .
14من فوائد الآية: جواز الأكل ،والشرب ،والجماع في ليالي الصيام حتى يتبين الفجر ؛لقوله تعالى:{وكلوا واشربوا حتى يتبين} .
أخذ بعض أهل العلم من هذا استحباب السُّحور ،وتأخيره ؛وهذا الاستنباط له غور ؛لأنه يقول: إنما أبيح الأكل والشرب ليلة الصيام رفقاً بالمكلف ؛وكلما تأخر إلى قرب طلوع الفجر كان أرفق به ؛فما دام نسخ التحريم من أجل الرفق بالمكلف فإنه يقتضي أن يكون عند طلوع الفجر أفضل منه قبل ذلك ؛لأنه أرفق ؛وهذا استنباط جيد تعضده الأحاديث - مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السَّحور بركة » - ؛ففيه بركة لكونه معيناً على طاعة الله ؛وفيه بركة لأنه امتثال لأمر رسول الله ( ص ) ؛وفيه بركة لأنه اقتداء برسول الله ( ص ) ؛وفيه بركة لأنه يغني عن عدة أكلات ،وشرابات في النهار ؛وفيه بركة لأنه فصل بين صيامنا وصيام أهل الكتاب ؛فهذه خمسة أوجه من بركته .
15ومن فوائد الآية: أن الإنسان لو طلع عليه الفجر وهو يجامع ،ثم نزع في الحال فلا قضاء عليه ،ولا كفارة ؛لأن ابتداء جماعه كان مأذوناً فيه ؛ولكن استدامته بعد أن تبين الفجر حرام ،وعلى فاعله القضاء والكفارة ،إلا أن يكون جاهلاً ؛وقد قيل: إنه إذا نزع في هذه الحال فعليه كفارة ؛لأن النزع جماع ؛لكنه قول ضعيف ؛إذ كيف نلزمه بالقضاء والكفارة مع قيامه بما يجب عليهوهو النزع.
16ومنها: جواز أن يصبح الصائم جنباً ،لأن الله أباح الجماع حتى يتبين الفجر ،ولازم هذا أنه إذا أخر الجماع لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر ؛وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنباً من جماع أهله ،ثم يصوم{[292]} .
17ومنها: جواز الأكل ،والشرب ،والجماع مع الشك في طلوع الفجر ؛لقوله تعالى:{حتى يتبين}؛فإن تبين أن أكله ،وشربه ،وجماعه ،كان بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه .
18ومنها: رد قول من قال: إنه يجوز أن يأكل الصائم ،ويشرب إلى طلوع الشمس ؛لقوله تعالى:{حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}؛وكذلك رد قول من قال: إنه يجوز أن يأكل ويشرب إلى الغلس .
19ومن فوائد الآية: بيان خطأ بعض جهال المؤذنين الذين يؤذنون قبل الفجر احتياطاً - على زعمهم - ؛لأن الله تعالى أباح الأكل ،والشرب ،والجماع ،حتى يتبين الفجر ؛ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ؛فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر »{[293]} ؛وهو أيضاً مخالف للاحتياط ؛لأنه يستلزم أن يمتنع الناس مما أحل الله لهم من الأكل ،والشرب ،والجماع ،وأن يقدِّم الناس صلاة الفجر قبل طلوع الفجر ؛وأيضاً فإنه يفتح باباً للمتهاون ،حيث يعلم أنه أذن قبل الفجر فلا يزال يأكل إلى أمد مجهول ،فيؤدي إلى الأكل بعد طلوع الفجر من حيث لا يشعر ؛ثم اعلم أن الاحتياط الحقيقي إنما هو في اتباع ما جاء في الكتاب ،والسنة - لا في التزام التضييق والتشديد - .
20ومن فوائد الآية: أنه لو أكل الإنسان يظن أن الفجر لم يطلع ،ثم تبين أنه طلع فصيامه صحيح ؛لأنه قد أذن له بذلك حتى يتبين له الفجر ؛وما كان مأذوناً فيه فإنه لا يرتب عليه إثم ،ولا ضمان ،ولا شيء ؛ومن القواعد الفقهية المعروفة: «ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون » ؛وهذا هو ما تؤيده العمومات ،مثل قوله تعالى:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [ البقرة: 286]؛وقوله تعالى:{ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [ الأحزاب: 5]؛وتؤيده أيضاً نصوص خاصة في هذه المسألة نفسهاوهو فعل عدي بن حاتم رضي الله عنه ،حيث كان يضع عقالين تحت وسادته أحدهما أبيض ،والآخر أسود؛فيأكل وهو يتسحر حتى يتبين له العقال الأبيض من العقال الأسود ،ثم يمسك ؛فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ،وبين له النبي صلى الله عليه وسلم المراد في الآية ،ولم يأمره بالقضاء{[294]} .
21ومن فوائد الآية: الإيماء إلى كراهة الوصال ؛لقوله تعالى:{كلوا واشربوا حتى يتبين}؛والوصال معناه أن يقرن الإنسان صوم يومين جميعاً لا يأكل بينهما ؛وقد كان الوصال مباحاً ،ثم نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ،وقال: «أيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر »{[295]} ؛ورغب ( ص ) في تعجيل الفطر ،فقال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر »{[296]} ؛وهذا من باب أن الشيء قد يكون مأذوناً فيه ،وليس بمشروع ؛فالوصال إلى السَّحَر مأذون فيه ،ولكن ليس بمشروع ؛ومثال آخر: الصدقة عن الميت: فهذا أمر مأذون فيه ،وليس بمشروع .
22ومن فوائد الآية: أن الاعتبار بالفجر الصادق الذي يكون كالخيط ممتداً في الأفق ؛وذكر أهل العلم أن بين الفجر الصادق والفجر الكاذب ثلاثة فروق:
الفرق الأول: أن الصادق مستطير معترض من الجنوب إلى الشمال ؛والكاذب مستطيل ممتد من الشرق إلى الغرب .
والفرق الثاني: أن الصادق متصل بالأفق ؛وذاك بينه ،وبين الأفق ظلمة .
والفرق الثالث: أن الصادق يمتد نوره ،ويزداد ؛والكاذب يزول نوره ويظلم .
23ومن فوائد الآية: أن بياض النهار ،وسواد الليل يتعاقبان ،فلا يجتمعان ؛لقوله تعالى:{حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} .
24ومنها: أن الأفضل المبادرة بالفطر ؛لقوله تعالى:{إلى الليل}؛وقد جاءت السنة بذلك صريحاً ،كما في قوله ( ص ): «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر » .
25ومنها: أن الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ؛لقوله تعالى:{ثم أتموا الصيام إلى الليل} .
26ومنها: أن الصيام الشرعي ينتهي بالليل ؛لقوله تعالى:{إلى الليل}؛وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ( ص ): «إذا أقبل الليل من هاهنا،وأدبر النهار من هاهناوغربت الشمس فقد أفطر الصائم »{[297]} .
27ومنها: الإشارة إلى مشروعية الاعتكاف ؛لأن الله أقره ،ورتب عليه أحكاماً ،وقوله تعالى:{في المساجد} بيان للواقع ؛لأن الاعتكاف المشروع لا يكون إلا في المساجد .
28ومنها: أن الاعتكاف مشروع في كل مسجد ؛لعموم قوله تعالى:{في المساجد}؛فلا يختص بالمساجد الثلاثة - كما قيل به - ؛وأما حديث حذيفة: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة »{[298]} - يعني المسجد الحرام ،والمسجد النبوي ،والمسجد الأقصى - فإن صح فالمراد به الاعتكاف الكامل .
29ومنها: أن ظاهر الآية أن الاعتكاف يصح في كل مسجد - وإن لم يكن مسجد جماعة - ؛وهذا الظاهر غير مراد لوجهين:
الوجه الأول: أن «أل » في{المساجد} للعهد الذهني ؛فتكون دالة على أن المراد ب{المساجد} المساجد المعهودة التي تقام فيها الجماعة .
الوجه الثاني: أنه لو جاز الاعتكاف في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة للزم من ذلك أحد أمرين: إما ترك صلاة الجماعة - وهي واجبة - ؛وإما كثرة الخروج إليها - وهذا ينافي الاعتكاف ،أو كماله - .
30ومن فوائد الآية: النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف .
31ومنها: أن الجماع مبطل للاعتكاف ؛وجه كونه مبطلاً أنه نهي عنه بخصوصه ؛والشيء إذا نهي عنه بخصوصه في العبادة كان من مبطلاتها .
32ومنها: ما استنبطه بعض أهل العلم أن الاعتكاف يكون في رمضان ،وفي آخر الشهر ؛لأن الله ذكر حكمه عقب آية الصيام ؛وهذا هو الذي جاءت به السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في العشر الأواخر من رمضان حين قيل له: «إن ليلة القدر في العشر الأواخر »؛وكان اعتكافه في العشر الأول ،والأوسط يتحرى ليلة القدر ؛فلما قيل له: «إنها في العشر الأواخر » ترك الاعتكاف في العشر الأول ،والأوسط .
33ومنها: أن أوامر الله حدود له ؛وكذلك نواهيه ؛لقوله تعالى:{تلك حدود الله} .
34ومنها: أنه ينبغي البعد عن المحارم ؛لقوله تعالى:{فلا تقربوها}؛وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ،وعرضه ؛ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ؛ألا وإن لكل ملِك حمى ؛ألا وإن حمى الله محارمه »{[299]} .
35ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يبين للناس الآيات الكونية ،والشرعية ؛لقوله تعالى:{كذلك يبين الله آياته للناس}؛والآيات الكونية هي المخلوقات ؛فكل المخلوقات ذواتها ،وصفاتها ،وأحوالها من الآيات الكونية ،كما قال تعالى:{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} [ فصلت: 37] ،وقال تعالى:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} [ الروم: 21] ،وقال تعالى:{ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} [ الروم: 20] ...إلخ ؛وكانت المخلوقات آية لله ؛لأنه لا أحد من المخلوق يصنع مثلها .
والآيات الشرعية: هي ما أنزله الله تعالى على رسله ،وأنبيائه من الوحي ؛فإنها آيات شرعية تدل على كمال منزلها سبحانه وتعالى في العلم ،والرحمة ،والحكمة ،وغير ذلك مما تقتضيه أحكامها ،وأخبارها ؛وجه ذلك أنك إذا تأملت أخبارها وجدتها في غاية الصدق ،والبيان ،والمصلحة ،كما قال تعالى:{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [ يوسف: 3]؛فأحسن الأخبار أخبار الوحي: القرآن ،وغيره ؛وأصلحها للخلق قصصها ،كما قال تعالى:{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [ يوسف: 111]؛وإذا تأملت أحكامها وجدتها أحسن الأحكام ،وأصلحها للعباد في معاشهم ،ومعادهم ،كما قال تعالى:{ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [ المائدة: 50]؛ولو اجتمع الخلق على أن يأتوا بمثل الأحكام التي أنزلها الله على رسوله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ؛بهذا تكون آية على ما تقتضيه من صفات الله سبحانه وتعالى .
36ومن فوائد الآية: الرد على أهل التعطيل ،وغيرهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه في أسماء الله ،وصفاته ؛وجه ذلك أنهم لما قالوا: المراد ب«اليد » النعمة ،أو القوة ؛والمراد ب«الاستواء » الاستيلاء ؛والمراد بكذا كذا - وهو خلاف ظاهر اللفظ ،ولا دليل عليه - صار القرآن غير بيان للناس ؛لأنه ما دام أن البيان خلاف ما ظهر فلا بيان .
37ومنها: أن العلم سبب للتقوى ؛لقوله تعالى:{لعلهم يتقون}؛ووجهه أنه ذكره عقب قوله تعالى:{كذلك يبين الله آياته للناس}؛فدل هذا أنه كلما تبينت الآيات حصلت التقوى ؛ويؤيد ذلك قوله تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} [ فاطر: 28]؛فكلما ازداد الإنسان علماً بآيات الله ازداد تقًى ؛ولهذا يقال: من كان بالله أعرف كان منه أخوف .
38ومنها: علو مرتبة التقوى ؛لكون الآيات تبين للناس من أجل الوصول إليها .
مسألة:
لو أذن المؤذن للفجر وفي يد الصائم الإناء يشرب منه فهل يجب عليه أن ينزل الإناء ،أو له أن يقضي نهمته منه ؟على مذهب الإمام أحمد يجب أن ينزل الإناء ؛بل يجب لو كان في فمه ماء لفْظه ؛وكذلك الطعام ؛وهذا هو ظاهر القرآن ؛لكن ورد في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة بإسناد صححه أحمد شاكر بأنه لو أذن المؤذن والإناء في يدك فلا تضعه حتى تقضي حاجتك منه{[300]} ؛فإن كان هذا الحديث صحيحاً فإنه يحمل على أن المؤذن قد احتاط فيؤذن قبل الفجر - أي لا يؤخر الأذان إلى أن يطلع الفجر - ؛لأنه قد يؤذن وهو لم يتبين له كثيراً فسُمح للإنسان أن يقضي نهمته من الإناء الذي في يده ؛وإنما حملناه على ذلك لظاهر الآية ،ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل ،فكلوا ،واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ؛فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر »{[301]} ،وقد يقال: الحديث على ظاهره ؛ووجهه: أن هذا الشارب شرع في شربه في وقت يسمح له فيه ،فكان آخر شربه تبعاً لأوله ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة »؛ويكون هذا مما سامح به الشارع .