كانت آية الدعاء وقرب الله تعالى لمن يدعوه واستجابته له ، كان هذا إشارة إلى صفاء النفس الذي يكون للصائم إذا قام بحق الصيام ، وقرب من الله تعالى ، ولقد كان ابن عمر – وغيره من الصحابة المقربين –كثير الدعاء في رمضان ، وسماه بعض العباد شهر الاستجابة .
وبعد ذلك أخذ القرآن الكريم يبين بعض أحكام الصيام يشرح وقته ، وإزالة بعض الأوهام ، فقال تعالى:[ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وانتم لباس لهن] .
فهم بعض الناس أن اتصال الرجل بأهله في ليل رمضان كان ممنوعا ثم أحل ، وفهم ذلك من قوله تعالى:[ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم] ، فالإحلال لا يكون إلا في موضع كان محرما ، وقد نسخ التحريم ، وإن ذلك ظن الذين يفرطون في ذكر الناسخ والمنسوخ في القرآن ، وعندي أن "أحل"تدل على أن الرفث إلى النساء حلال قد أحله الله تعالى ، وذكر بالبناء للمجهول للدلالة على أنه حلال من قبل ومن بعد .
و إنه قد جاءت الروايات عن الصحابة بأن بعضهم حسب أنه مجرد نوم أحدهم ينتهي وقت الفطر ، ويبتدئ وقت الصوم{[190]} ، ويظن من يأتي امرأته بعد أن ينام أنه قد انتهك حرمة الصوم ، فرد الله تعالى ذلك الزعم بقوله تعالت حكمته:[ أحل لكم ليلة الصيام الرفث] . والرفث ذكر ما يكون بين الرجل والمرأة من جماع ومقدماته ونحو ذلك من القول ، وهو هنا كناية عن الجماع كما يكنى بلفظ لامستم النساء عن الجماع ، وكذلك بلفظ لمستم .
و قول الله تعالى [ إلى نسائكم] لتضمن الرفث معنى الإفضاء إلى النساء بجماعهن كما قال الله تعالى:[ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا 20 وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا 21]] ( النساء ) .
و قد بين الله تعالى صلة الرجل بامرأته بأدق عبارة وأرق قول ، فقال تعالى:[ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن] اللباس ما يستر البدن للرجل والمرأة ، فالعلاقة بين الزوجين تجعل الزوجة كأنها لباس لزوجها تستره ، وتمس جسمه وتكون منه بمنزلة الشعار والدثار{[191]} ، وهو لها كأنه لباس يسترها ، ويكون منها بمنزلة الشعار والدثار يلامس جسمها جسمه ، فتكون المشاعر التي تثير وتهيج .
وان هذا اللفظ يدل على الحاجة الحسية من الرجل لامرأتهومن المرأة لزوجها ، والحاجة النفسية والرباط الروحي الذي يربط بينهم بالمودة والرحمة ، كما قال تعالى:[ و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة . . .21] ( الروم ) .
و قد بين الله تعالى أنهم كانوا يكلفون أنفسهم ما لم يكلفوا ، فكانوا يمتنعون عن مباشرة النساء ظانين أن ذلك غير حلال لهم فقال تعالى:[ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم] أي تخونون باستباحة ما أحل الله لكم إذ تضطرون بحكم العلاقة الشرعية والإنسانية أن يكون منكم لأزواجكم ما يظنونه ممنوعا ، وهو غير ممنوع فتاب عليكم من هذا الظن وبين لكم أنه حلال . قال الله آمرا بإباحة المباشرة ، وحدا لميقات الصوم [ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم] .
المباشرة كناية عن الجماع ، ككناية الملامسة والرفث إليهن ، ولكنها أقرب إلى الصراحة من الملامسة والمس . وابتغاء ما كتب الله تعالى هو ابتغاء الولد حفظا للنسل ، وعمارة للكون بالإنسان الذي هو الخليفة في الأرض ، فالنكاح ما شرعه الله تعالى إلا لابتغاء ذلك لا لمجرد الشهوة ، وإن الله تعالى قد أودع غرائز الإنسان ما ينوط به تكليفه فأودع فيه الشهوة ليسهل وجود النسل وتكاثره ، وإن الأسرة تكليف شديد ، ويتعلق به تبعات كثيرة من تربية الأولاد ، والإنفاق وحضانتهم ، وحمله كرها ووضعه كرها ، وحمله وهنا على وهن ، وغير ذلك من المشاق الظاهرة ولولا الشهوة الدافعة ما تزوج ولا تزوجت ، ولكن الله تعالى لحكمته ، ولما كتبه من البقاء للإنسان ركب فيه هذه الغريزة الجنسية لتدفعه إلى الزواج راغبا ولطلب الولد محبا .
و الذين يدعون إلى الحد من النسل وأن تكون الشهوة للشهوة لا لطلب الولد ، محاربون للفطرة ، وينحدرون إلى درك دون الإنسان ، بل دون الحيوان .
و ذكر نعمة الولد وقال:[ وابتغوا ما كتب الله لكم] ، أي ما قدر الله تعالى لكم من ولد . وهذا إشارة إلى أن الولد ، رزق كتبه الله تعالى لكم ، فأكرموه ، لأنه عطاء الله ، واحفظوه لأنه أمانته التي كتبها لكن وائتمنكم عليها .
و حد الله تعالى ميقات الإفطار والصوم ، فقال تعالت كلماته:[ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر] .
والخيط الأبيض هو خيط الفجر يشق السماء بنور كالخط ثم ينتشر ذلك الخط شيئا فشيئا حتى يختفي الظلام ويكون النهار . والخيط الأسود ما يكون حول ذلك الخط الأبيض من ظلام وقوله من الفجر من هنا بيانية أي أن الخطين يبدوان في الفجر وهو ابتداء النهار وهو ابتداء الصوم ، و لذا قال تعالى:[ ثم أتموا الصيام إلى الليل] أي إلى غروب الشمس فالخط الأبيض في سواد الليل هو نهاية الأكل والشرب وكل المباحات في الإفطاروابتداء المنع بالصيام حتى يكون الغروب ، وبذلك حد الوقت للإفطار وللصوم معا .
و إنه في العشرة الأخيرة من رمضان يستحب الاعتكاف في المسجد بأن يبقى فيه متعبدا متنسكا لا يخرج منه إلا لحاجة ضرورية ويعود فور زوالها ويمنع من النساء ، ولذا قال تعالى:[ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد] .
و بهذا أشار سبحانه وتعالى إلى استحسان الاعتكاف وهو سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم . إنه بهذا البيان الحكيم قد حد الله تعالى ما يحل وما لا يحل ووقت الحل ووقت الصوم ، وحد ميعاد الصوم وميعاد الفطر ، ولذلك قال تعالى:[ تلك حدود الله فلا تقربوها] فالتزموها ولا تقاربوا الابتداء ولا الانتهاءأو لا تقربوها بمعنى لا تعتدوا عليها فتمتنعوا حيث لا يجوز المنع كالامتناع عن الأكل والشرب ثم قال تعالى:[ كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون] أي كذلك البيان الذي بين فيه الصوم ورخصه وعزائمه وحدوده وما لا يجوز ولا بيان كهذا البيان . يبين الله تعالى الأحكام والتكليفات رجاء أن يتقوا الله تعالى ويجعلوا وقاية بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وينالون رضوانه .
فقوله تعالى:[ لعلهم يتقون] لعل فيه للرجاء ، والرجاء من العباد لا من الله تعالى ، لأن الرجاء معنى لا يليق بذات الله العلية الذي جل علمه وتنزهت ذاته .
و هذا يفيد أن كل التكليفات الشرعية وخصوصا العبادات لتربية النفس المؤمنة على التقوى ، وإيداع المهابة من الله تعالى في قلوب العباد فلا يتجرؤون فينتهكوا حرمات الشهر الذي عظمه الله تعالى ، وجعله مباركا ، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .