{ )يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: )189
التفسير:
قوله تعالى:{يسألونك عن الأهلة}؛{الأهلة} جمع هلال ؛وهو القمر أول ما يكون شهراً ؛وسمي هلالاً لظهوره ؛ومنه: الاستهلال ؛والإهلال هو رفع الصوت ،كما في حديث خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال » يعني بالتلبية ؛ومنه قولهم: «استهل المولود » إذا صرخ بعد وضعه .
وقوله تعالى:{يسألونك عن الأهلة} يعني: الحكمة فيها بدليل الجواب:{قل هي مواقيت للناس والحجوأما ما ذكره أهل البلاغة من أنهم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن السبب في كون الهلال يبدو صغيراً ،ثم يكبر ؛فأجاب الله سبحانه وتعالى ببيان الحكمة ؛وقالوا: إن هذا من أسلوب الحكيم أن يجاب السائل بغير ما يتوقع إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يُسأل عن هذا ؛فالصواب أنهم لم يسألوا الرسول عن هذا ؛ولكن سألوه عن الحكمة من الأهلة ،وأن الله سبحانه وتعالى خلقها على هذا الوجه ؛والدليل: الجواب ؛لأن الأصل أن الجواب مطابق للسؤال إلا أن يثبت ذلك بنص صحيح .
قوله تعالى:{قل هي} أي الأهلة{مواقيت للناس} جمع ميقاتمن الوقت؛أي يوقتون بها أعمالهم التي تحتاج إلى توقيت بالأشهر ،كعدة الوفاة أربعة أشهر وعشر ،وعدة المطلقة بعد الدخول إذا كانت لا تحيض ثلاثة أشهر ،وآجال ديونهم ،وإجاراتهم ،وغير ذلك .
قوله تعالى:{والحج} يعني مواقيت للحج ؛لأن الحج أشهر معلومات تبتدئ بدخول شوال ،وتنتهي بانتهاء ذي الحجة ؛ثلاثة أشهر ؛وكذلك هي مواقيت للصيام ،كما قال تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [ البقرة: 185]؛لكن سياق الآيات توطئة لبيان أشهر الحج ؛فلهذا قال تعالى:{مواقيت للناس والحج}؛ولم يذكر الصيام ؛لأنه سبق .
قوله تعالى:{وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}؛{البر} هو الخير الكثير ؛وسمي الخير براً لما فيه من السعة ؛ومنه في الاشتقاق «البَرّ »الذي هو الخلاء: وهو ما سوى البنيانلسعته .
وقوله تعالى:{بأن تأتوا}: الباء حرف جر زائد للتوكيد ؛يعني: وليس البر بإتيانكم البيوت من ظهورها ؛و{البُيوت} بضم الباء ؛وفي قراءة بكسر الباء .
وقوله تعالى:{من ظهورها}؛{من} بيانية ؛أي تأتوها من الخلف ؛وكانوا في الجاهلية من سفههم يأتون البيوت من ظهورها إذا أحرموا بحج ،أو بعمرة إلا قريشاً ؛فإنهم يأتونها من أبوابها ؛أما غيرهم فيقولون: نحن أحرمنا ؛لا يمكن أن ندخل بيوتنا من أبوابها ؛هذا يبطل الإحرام ؛لا بد أن نأتي من الظهور لئلا يسترنا سقف البيت ؛فكانوا يتسلقون البيوت مع الجدران من الخلف ،ويعتقدون أن ذلك بِرّ وقربة إلى الله عز وجل ؛فنفى الله هذا ،وأبطله بقوله تعالى:{وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}؛لما فيه من التعسير ،ولما فيه من السفه ومخالفة الحكمة ،فهو خلاف البر ؛ولهذا قال تعالى:{ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها} .
قوله تعالى:{ولكن البر من اتقى}؛وفي قراءة:{ولكنِ البرُّ} بتخفيف النون في{لكنِ}؛ورفع{البرُّ}؛على أن تكون{لكن} مخففة من الثقيلة مهملة ؛و{البر} مبتدأ ؛أما على قراءة التشديد فهي عاملة ؛و{البر} اسمها ؛وقوله تعالى:{البر من اتقى}:{البر} اسم معنى ؛و{من اتقى} اسم جثة ؛كيف يخبر بالجثة عن اسم المعنى ؟
فالجواب أنه يخرج على واحد من أوجه ثلاثة:
الوجه الأول: أن يكون المصدر هنا بمعنى اسم الفاعل ؛أي: ولكن البار .
الوجه الثاني: أن يكون المصدر على تقدير محذوف ؛أي: ولكن البر بر من اتقى .
الوجه الثالث: أن هذا على سبيل المبالغة أن يجعل{من اتقى} نفس البر ،كما يصفون المصدر فيقولون: فلان عدل ،ورضا .
وقوله تعالى:{من اتقى} أي اتقى الله عز وجل ؛لأن الاتقاء في مقام العبادة إنما يراد به اتقاء الله عز وجل ؛البر هو التقوى ؛هذا هو حقيقة البر ؛لا أن تتقي دخول البيت من بابه ؛ولهذا قال تعالى:{وأتوا البيوت من أبوابها} أي من جهة الباب فإن هذا هو الخير .
قوله تعالى:{واتقوا الله} أي اجعلوا لكم وقاية من عذابه بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه .
قوله تعالى:{لعلكم تفلحون}؛«لعل » للتعليل ؛أي لأجل أن تنالوا الفلاح ؛و «الفلاح » هو الفوز بالمطلوب ،والنجاة من المرهوب .
الفوائد:
1من فوائد الآية: حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم ،وأنهم يسألون عن أمور الدين ،وأمور الدنيا ؛لأن هذا مما يتعلق بالدنيا .
2ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى برسوله ( ص ) ،حيث يجيب عن الأسئلة الموجهة إليه ؛وهذا من معونة الله للرسول ( ص ) ،وعنايته به .
3ومنها: بيان علم الله ،وسمعه ،ورحمته ؛لقوله تعالى:{يسألونك}؛علم الله بسؤالهم ،وسمعه ،ورحمهم بالإجابة .
4ومنها: أن الحكمة من الأهلة أنها مواقيت للناس في شؤون دينهم ،ودنياهم ؛لقوله تعالى:{مواقيت للناس
5ومنها: أن ميقات الأمم كلها الميقات الذي وضعه الله لهموهو الأهلة؛فهو الميقات العالمي ؛لقوله تعالى:{مواقيت للناس}؛وأما ما حدث أخيراً من التوقيت بالأشهر الإفرنجية فلا أصل له من محسوس ،ولا معقول ،ولا مشروع ؛ولهذا تجد بعض الشهور ثمانية وعشرين يوماً ،وبعضها ثلاثين يوماً ،وبعضها واحداً وثلاثين يوماً من غير أن يكون سبب معلوم أوجب هذا الفرق ؛ثم إنه ليس لهذه الأشهر علامة حسية يرجع الناس إليها في تحديد أوقاتهمبخلاف الأشهر الهلالية فإن لها علامة حسية يعرفها كل أحد.
6ومنها: أن الحج مقيد بالأشهر ؛لقوله تعالى:{والحج} .
7ومنها: أن البر يكون بالتزام ما شرعه الله ،والحذر من معصيته ؛لقوله تعالى:{ولكن البر من اتقى} .
8ومنها: أن العادات لا تجعل غير المشروع مشروعاً ؛لقوله تعالى:{وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} مع أنهم اعتادوه ،واعتقدوه من البر ؛فمن اعتاد شيئاً يعتقده براً عُرِض على شريعة الله .
9ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأتي الأمور من أبوابها ؛لقوله تعالى:{وأتوا البيوت من أبوابها}؛فإن هذه الآية كما تناولت البيوت الحسية كذلك أيضاً تناولت الأمور المعنوية ؛فإذا أردت أن تخاطب مثلاً شخصاً كبير المنزلة فلا تخاطبه بما تخاطب سائر الناس ؛ولكن ائت من الأبواب ؛لا تتجشم الأمر تجشماً ؛لأنك قد لا تحصل المقصود ؛بل تأتي من بابه بالحكمة ،والموعظة الحسنة حتى تتم لك الأمور .
10ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى إذا نهى عن شيء فتح لعباده من المأذون ما يقوم مقامه ؛فإنه لما نفى أن يكون إتيان البيوت من ظهورها من البر بيّن ما يقوم مقامه ،فقال تعالى:{وأتوا البيوت من أبوابها}؛وله نظائر منها قوله تعالى:{لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [ البقرة: 104]؛ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: «ما شاء الله وشئت »: «أجعلتني لله نداً ؛بل ما شاء الله وحده »{[303]} ؛والأمثلة في هذا كثيرة .
11ومنها: وجوب تقوى الله ؛لقوله تعالى:{واتقوا الله} .
12ومنها: أن التقوى تسمى براً .
13ومنها: أن التقوى سبب للفلاح ؛لقوله تعالى:{لعلكم تفلحون} .