)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( البقرة:218 )
التفسير:
قوله تعالى:{إن الذين آمنوا}؛«الإيمان » في اللغة التصديق: قال تعالى عن إخوة يوسف قائلين لأبيهم:{وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [ البقرة: 17]؛وأما في الشرع فهو التصديق المستلزم للقبول والإذعان .
قوله تعالى:{والذين هاجروا} معطوفة على ما سبق من باب عطف الصفات ،كقوله تعالى:{سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى} [ الأعلى: 1 - 4]؛فهذه المعطوفات من باب عطف الصفات ؛لأن الموصوف بها واحد ؛و«الهجر » في اللغة الترك ؛ومنه: «هجرت فلاناً » إذا لم تكلمه ؛وفي الشرع له معنيان: عام ،وخاص ؛فأما العام فهو هجر ما حرم الله عزّ وجلّ ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه »{[379]} ؛وأما الخاص فهو أن يهجر الإنسان بلده ووطنه لله ورسوله ،بأن يكون هذا البلد بلد كفر لا يقيم فيه الإنسان دينه ؛فيهاجر من أجل إقامة دين الله ،وحماية نفسة من الزيغ ،كما جاء في الحديث صحيح: «من كانت هجرته لدنيا يصيبها ،أو امرأة ينكحها ،فهجرته إلى ما هاجر إليه »{[380]} ؛والمراد بالهجرة في الآية ما يشمل المعنيين: العام ،والخاص .
قوله تعالى:{وجاهدوا في سبيل الله} معطوفة على الصلة في{الذين هاجروا}؛ولم يعد الموصول ؛لأن الهجرة والجهاد عملان مبنيان على الإيمان ؛و «الجهاد في سبيل الله » هو قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا ؛و «الجهاد » هو بَذْلُكَ الجهد لأمر مطلوب ؛والجهد معناه الطاقة ،كما قال تعالى:{والذين لا يجدون إلا جهدهم} [ التوبة: 79] يعني إلا طاقتهم ؛وهو يغلب على بذل الجهد في قتال الأعداء ؛وإلا فكل أمر شاق تبذل فيه الطاقة فإنه جهاد ؛ولهذا كان جهاد النفس يسمى جهاداً ؛ولكن لا صحة للحديث الذي يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رجع من تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر »{[381]} يعني: جهاد النفس ؛ولكن لا شك أن النفس تحتاج إلى مجاهدة لحملها على فعل الطاعة ،وترك المعصية .
قوله تعالى:{أولئك يرجون رحمة الله}؛هذه الجملة خبر{إن} في أول الآية ؛واسمها{الذين}؛وجملة:{أولئك يرجون رحمة الله} الخبر ؛وهي جملة ؛لأن «أولاء » مبتدأ ؛و{يرجون} جملة خبر المبتدأ الثاني ؛والجملة من المبتدأ الثاني ،والخبر خبر{إن}؛والإشارة بمبتدأ جديد تدل على رفعة مقامهم ؛ولا سيما وقد أتى باسم الإشارة ؛وتصدير خبر{إن} باسم الإشارة للبعيد يدل على علو همتهم ؛فيكون في ذلك تنويه بذكرهم من وجهين:
أولاً: الإشارة إليهم بما يدل على الرفعة والعلو .
ثانياً: أن تعدد المبتدأ يجعل الجملة الواحدة كالجملتين ؛فيكون في ذلك توكيد على توكيد .
و «الرجاء » الطمع في حصول ما هو قريب ؛ومعلوم أن الطمع بما هو قريب لا يكون قريباً إلا بفعل ما يكون قريباً به ؛وهؤلاء فعلوا ما تكون الرحمة قريبة منهم ؛والذي فعلوه: الإيمان ،والهجرة ،والجهاد ؛فإذا لم يرْجُ هؤلاء رحمة الله فمن الذي يرجوها ؟!!فهؤلاء هم أهل الرجاء ؛فالرجاء لا بد له من أسباب ؛وحسن الظن لا بد له من أسباب .
والمراد بالرحمة هنا يحتمل أن تكون الرحمة التي هي صفته - أي أن يرحمهم - ؛ويحتمل أن يكون المراد ما كان من آثار رحمته ؛وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء »{[382]} ؛فجعل المخلوق رحمة له ؛لأنه من آثار رحمة الله ؛ولهذا قال: «أرحم بك »؛أما الرحمة التي هي وصفه فهي شيء آخر ؛فالآية محتملة للمعنيين ؛وكلاهما متلازمان ؛لأن الله إذا رحم عبداً أدخله الجنة التي هي رحمته .
قوله تعالى:{والله غفور رحيم}؛قد يقول قائل: ما محل ذكر اسم الله «الغفور » هنا مع أن هؤلاء قاموا بأعمال صالحة ؟الجواب أن القائم بالأعمال الصالحة قد يحصل منه شيء من التفريط ،والتقصير ؛ولذلك شرع للمصلي أن يستغفر الله ثلاثاً بعد السلام ؛وأما ذكر «الرحيم » فواضح مناسبته ؛لأن كل هذه الأعمال التي عملوها من آثار رحمته ؛وسبق الكلام على هذين الاسمين الكريمين .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان ،والهجرة ؛لقوله تعالى:{إن الذين آمنوا والذين هاجروا} الآية .
2 - ومنها: أن الجهاد دون مرتبة الهجرة ؛لأنه جعل الجهاد معطوفاً على الهجرة ؛ولم يجعل له اسماً موصولاً مستقلاً .
3 - ومنها: مراعاة الإخلاص في الهجرة ،والجهاد ؛لقوله تعالى:{في سبيل الله}؛وأما بدون الإخلاص فهجرته إلى ما هاجر إليه ؛واعلم أنه يقال: في كذا ؛ولكذا ؛وبكذا ؛تقول مثلاً: جاهدت لله ؛وجاهدت بالله ؛وجاهدت في الله ؛ف«لله »: اللام لبيان القصد ؛فتدل على الإخلاص ؛و«بالله »: الباء للاستعانة ؛فتدل على أنك جاهدت مستعيناً بالله ؛و«في الله »: «في » للظرفية ؛فتدل على أن ذلك الجهاد على وفق شرع الله - لم يتعد فيه الحدود - .
4 - ومن فوائد الآية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكون جازماً بقبول عمله ؛بل يكون راجياً ؛ولكنه يرجو رجاءً يصل به إلى حسن الظن بالله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{أولئك يرجون رحمة الله}؛لأنهم لا يغترون بأعمالهم ؛ولا يُدْلُون بها على الله ؛وإنما يفعلونها وهم راجون رحمة الله .
5 - ومنها: إثبات اسمي «الغفور » ،و «الرحيم » لله عزّ وجلّ ؛وإثبات ما دلَّا عليه من المغفرة والرحمة ؛وما يترتب على ذلك من غفران الذنوب والرحمة ؛فبالمغفرة يزول المكروه من آثار الذنوب ؛وبالرحمة يحصل المطلوب .
6 - ومنها: كمال رحمة الله بالخلق ؛فلله على العامل عملاً صالحاً ثلاث نعم عظيمة:
الأولى: أنه بيّن له العمل الصالح من العمل غير الصالح ؛وذلك بما أنزله من الوحي على رسله ؛بل هي أعظم النعم .
الثانية: توفيقه لهذا العمل الصالح ؛لأن الله قد أضل أمماً عن العمل الصالح .
الثالثة: ثوابه على هذا العمل الصالح ثواباً مضاعفاً: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .
وهذا مما يدل على كمال رحمة الله بالخلق: أنه ينعم ،ثم يشكر المنعمَ عليه ،كما قال تعالى:{إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً} [ الإنسان: 22] .