/م216
ولما ذكر حال المشركين وحكم المرتدين ، ناسب أن يذكر جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين ، لأن الذهن يتوجه إلى طلبه فقال:
{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} .المهاجرة مفارقة الأوطان والأهل وهي من الهجر ضد الوصل .ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فرارا بنفسه وبقومه من أذى قريش وفتنتهم إلى المدينة التي عاهدوه من آمن من أهلها على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ، وجب على كل مسلم أن يتبعه في هجرته ليعتز الإسلام بأهله ، ويقدر المؤمنون باجتماعهم على الدفاع عن أنفسهم .واستمر وجوب الهجرة على من قدر إلى فتح مكة ، إذ خذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى ، وكلمة الله هي العليا .
وقد اختلف الفقهاء في حكم الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام في مثل عصرنا هذا ويؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان ، فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن فيها عن دينه ، بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده أو عمل بما يجب عليه ، وإن كان حكام تلك البلاد من صنف المسلمين ، ومن ذلك أن لا يقدر المسلمون على التصريح قولا وكتابة بكل ما يعتقدون ، ولا يمكنوا من القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي في المنكر المجمع عليه منهما .
وأما المجاهدة فهي من الجهد وهو المشقة وليس خاصا بالقتال .والرجاء هو توقع المنفعة من أسبابها .فالمؤمنون الذين هاجروا مع الرسول أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الحق ، والذين بذلوا جهدهم في مقاواة الكفار ومقاومتهم ، هم الذين يرجون رحمة الله تعالى وإحسانه رجاء حقيقيا ، وهم أجدر بأن يعطوا ما يرجون ، وأما طلب المنافع ودفع المضار من غير أسبابها العادية في العاديات والشرعية في الدينيات ، فلا يسميان رجاء ، بل تمنيا وغرورا:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس{[162]}
{ والله غفور رحيم} واسع المغفرة للتائبين المستغفرين ، عظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين ، ولاسيما المهاجرين المجاهدين ، يغفر لهم ما عساه يفرط منهم من تقصير ، ويتغمدهم برحمته ورضوانه ونعم المصير .