/م216
بعد ما بين سبحانه أن القتال كتب على هذه الأمة فلا مفر منه ، وإن كرهه المؤمنون خشية أن يضيع الحق بهلاك أهله ، أو لما أودع القرآن قلوبهم من الرحمة ، والرجاء بجذب الناس إلى الإيمان بجاذب الدليل والحجة ،وهو الأرجحبين سبحانه مسألة لا بد في هذا المقام من بيانها للحاجة إلى العلم بها ، على أنه وقع السؤال عنها ، وهي مسألة القتال في الشهر الحرام فقد كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر الناس على غير القبيح مما كانوا عليه ، وترك القتال أربعة أشهر من السنة حسن لأنه تقليل للشر ، لذلك كان لما فعله عبد الله بن جحش وأصحابه وقع سيء عند المسلمين والمشركين جميعا ، على أنهم لم يكونوا يعلمون عند أخذ العير وقتل من قتلوا أن ذلك اليوم غرة رجب .
قيل إن السائلين هم المؤمنون وقيل هم المشركون وقد تقدمت الرواية في ذلك ، وسياق الآية رد على المشركين ، وإرشاد للمؤمنين ، وهي{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} أي عن القتال فيه وقرئ{ عن قتال فيه} بتكرير العامل وقدم ذكره للعناية به ، ونكر القتال في السؤال والجواب لتنويعه كأنه قيل أيصح أن يقع فيه قتال ما ؟{ قل قتال فيه كبير} أي أن أي قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر وقوعه فيه لعظم حرمته وقال بعضهم معناه ذنب كبير وهذا تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام ، قال ابن جريج حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرام ولا في الأشهر الحرم إلا في سبيل الدفاع ، وإن هذا حكم باق إلى يوم القيامة .وقال بعضهم إنه منسوخ بقوله تعالى في سورة التوبة{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ( التوبة:5 ) وأنكر بعضهم هذا لأنه نسخ للخاص بالعام وفيه خلاف .وقال آخرون إن الآية لا تدلوعبارة البيضاوي والأولى منع دلالة الآيةعلى حرمة القتال في كل الشهر الحرام مطبقا لأن لفظ{ قتال} فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم وهذا القول غير ظاهر فإن دلالة الآية على المنع المطلق لا يتوقف على كون لفظ القتال فيها عاما ، وربما كانت دلالة النكرة فيها أدل على إطلاق الحكم في كل قتال في جنس الشهر الحرام كما بيناه في معنى تنكيرها وكونه للتنويع .ولهم في الآية كلام كثير ، والظاهر المتبادر أن إثبات كون القتال في الشهر الحرام كبيرا تمهيد للحجة على أن ما فعله عبد الله بن جحش وما عساه يفعله المسلمون من القتال فيه مبني على قاعدة لا ينكرها عقل ، وهي وجوب ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن بد من أحدهما .
ولاشك أن القتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم ، وإنما يرتكب لإزالة ما هو أعظم منه وذلك قوله تعالى{ وصد عن سبيل الله} أي وصد الناس ومنعهم عن الطريق الموصل إليه تعالى وهو الإسلاموهو الذي يفعله المشركون من اضطهاد المسلمين وفتنتهم عن دينهم إذ يقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه وأهله وماله ، ويمنعونه من الهجرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام{ وكفر به} أي بالله تعالى{ والمسجد الحرام} أي صد عن المسجد الحرام وهو منع المؤمنين من الحج والاعتمار{ وإخراج أهله منه} وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين وذلك كقوله في آيات الإذن بالقتال في سورة الحج{ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} ( الحج:40 ) كل واحدة من هذه الجرائم التي عليها المشركون{ أكبر عند الله} من القتال في الشهر الحرام فكيف بها وقد اجتمعت .
ثم صرح بالعلة العامة لمشروعية القتال وهي فتنة الناس عن دينهم فقال{ والفتنة أكبر من القتل} وكان المشركون يفتنون المؤمنين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب ، كما فعلوا بعمار بن ياسر وعشيرته ، وبلال وصهيب وخباب بن الأرث وغيرهم .كان عمار يعذب بالنار يكوى بها ليرجع عن الإسلام ، وكان الني صلى الله عليه وآله وسلم يمر به فيرى أثر النار به كالبرص وعن أم هاني قالت إن عمار بن ياسر وأباه وأخاه عبد الله وسمية أمه كانوا يعذبون في الله فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:( صبرا آل ياسر ، صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ) وفي رواية ( صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت ) .
مات ياسر في العذاب وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة وهو الذي عهد إليه بتعذيبها فعذبها عذابا شديدا رجاء أن تفتن في دينها فلم تجبه لما يسأل ، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت رضي الله عنها وكانت عجوزا كبيرة ، وكان أبو جهل يقول لها مع ذلك:ما آمنت بمحمد إلا أنك عشقته لجماله:يؤذيها بالقول كما يؤذيها بالفعل .وكان يلبس عمار درعا من الحديد في اليوم الصائف يعذبه بحره .وكان أمية بن خلف يعذب بلالا يفتنه فكان يجيعه ويعطشه ليلة ويوما ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء ، أي يضعه على الرمل المحمي بحرارة الشمس الذي ينضج اللحم ، ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وتعبد اللات والعزى .فأبي ذلك وهانت عليه نفسه في الله عز وجل ، وكانوا يعطونه للولدان فيربطونه بحبل ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول"أحد ، أحد ".وحكى خباب رضي الله عنه عن نفسه قال لقد رأيتني يوما وقد أوقدت لي نار وضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ( دهن ) ظهري .
فهذا نموذج من فتنة المشركين لضعفاء المسلمين وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه عز عليهم إبساله فمنعوه حمية وأنفة للقرابة .على أن النبي صلى الله عليه وسلم على منعة قومه وعناية الله تعالى به لم يسلم من إيذائهم فقد وضعوا سلا الجزور ( كرش البعير المملوء فرثا ) على ظهره وهو يصلي وخاف أصحابه تنحيته عن ظهره ، حتى نحته السيدة فاطمة رضي عليها السلام وتعرضوا له بضروب من الإيذاء كفاه الله شرها كما قال تعالى:{ إنا كفيناك المستهزئين} ( الحجر:95 ) وسيجيء ذكرهم وبيان إيذائهم في موضعه إن شاء الله تعالى .
هذا ما كان المشركون يعاملون به المؤمنين في حال ضعفهم ، ولما هاجروا وكثروا صاروا يقصدونهم بالقتال في مهجرهم لأجل الدين ، ولذلك قال تعالى:{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} عاد إلى خطاب المؤمنين الذين كانوا يكرهون القتال لما تقدم ، فأعلمهم أن أولئك المشركين لا هم لهم إلا منع الإسلام من الأرض ، فترك قتالهم هو الذي يبيد الحق وأهله ، وانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة ، طمع في غير مطمع ، والقتال في الشهر الحرام ، أهون من الفتنة عن الإسلام ، لو لم يحتف بها غيرها من الآثام ، كيف وقد قارنها الصد عن سبيل الله والكفر به والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه والاعتداء بالقتال والاستمرار عليه .وقوله{ إن استطاعوا} يفيد الشك في استطاعتهم وعدم الثقة بها لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة وهو الحق الصريح لا يرجع عنه إلى الكفر وهو الباطل المفضوح ، وهكذا كان وهكذا يكون فلا يزال الكفار يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا ، ولم يستطيعوا .
ولما ذكر الردة التي يبغونها بقتالهم بين حكمها فقال:{ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر حتى يموت عليه فرضا ، فأولئك المرتدون هم الذين بطلت وفسدت أعمالهم في الدارين حتى كأن واحدهم لم يعمل صالحا قط ، لأن الرجوع عن الإيمان إلى الكفر يشبه الآفة تصيب المخ والقلب فيذهب بالحياة ، فإن لم يمت المصاب بعقله وقلبه ، فهو في حكم الميت لا ينتفع بشيء وكذلك الذي يقع في ظلمات الكفر بعد أن هدي إلى نور الإيمان ، تفسد روحه ويظلم قلبه ، فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية ، ولا يعطى شيئا من أحكام المسلمين الظاهرة ، فيخسر الدنيا والآخرة .
يقول بعض الفقهاء:إن المرتد تبطل أعماله حتى كأنه لم يعمل خيرا قط ، وحتى أنه يجب عليه إعادة نحو الحج إذا رجع إلى الإسلام ، وتطلق منه امرأته طلاقا بائنا فلا تعود إليه إذا هو عاد إلى الإسلام إلا بعقد جديد .ويقول غيرهم إن حبوط العمل مشروط بالموت على الكفر ، فإذا ارتد المسلم مدة ثم عاد لا يجب عليه إعادة نحو الحج ، وأما امرأته فإنها تكون موقوفة إلى انتهاء العدة ، فإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها كانت على عصمته ، وإن عاد بعد انقضاء العدة فإنها لا ترجع إليه إلا بعقد جديد .وللردة أحكام أخرى عند الفقهاء تطلب من كتبهم .
ومعنى الآية ظاهر وهو أن المرتد لا ينتفع بأعمال الإسلام في دنياه ولا في أخراه ، وذلك أن الرجوع عن الدين رجوع عن أصوله الأساسية الثلاثة وهي:
( 1 ) الإيمان بأن لهذا الكون العظيم المتقن في وحدة نظامه ، وبديع إحكامه ، ربا إلها أبدعه وأتقنه بقدراته وحكمته بغير مساعد ولا واسطة ، فلا تأثير لغيره في شيء منه إلا ما هدى هو الناس إليه باطراد سننه في الأسباب والمسببات ، فيجب عليهم أن يعبدوه وحده لا يشركوا به شيئا ، لا في الدعاء ولا في غيره من معاني العبادة التي بيناها في سورة الفاتحة وغيرها .وهذا الأصل هو منتهى ما يصل إليه ارتقاء العقل البشري في الاعتقاد ، وتطهير الأنفس من الخرافات والأوهام .
( 2 ) الإيمان بعالم الغيب والحياة الآخرة ذلك أن العوالم الحية التي في هذا الكون لا تنعدم من الوجود ولا تنفذ من أقطار ملك الله بما نراه من فساد تركيبها وذهاب صورها ، فإذا كان العدم المحض غير معقول ، والتحول في الصور مألوف منظور ، فلا غرو أن يكون للناس حياة أخرى في عالم آخر بعد خراب هذا العالم .وهذا الإيمان ركن من أركان الارتقاء البشري لأنه يبعث البشر إلى الاستعداد لذلك العالم الأوسع الأكمل ، ويعرفهم بأن وجودهم أكمل وأبقى مما يتوهمون .
( 3 ) العمل الصالح الذي ينفع صاحبه وينفع الناس .
فهذه الأصول الثلاثة التي جاء بها كل نبي مرسل لا يتركها إنسان بعد معرفتها والأخذ بها ، إلا ويكون منكوسا لا حظ له من الكمال في دنياه ولا في آخرته ، بل يكون من أصحاب النفوس الخبيثة والأرواح المظلمة ، التي لا مقر لها في الآخرة إلا دار الخزي والهوان كما قال تعالى:{ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقد تقدم الكلام في مثل هذا .
كأنه تعالى يقول للمؤمنين الكارهين للقتال لا سيما في الشهر الحرام .إذا كان هؤلاء المشركون على ما ذكر من الكفر والطغيان ، ومن إيذائكم وفتنتكم عن الإيمان ، ومن منع إخوانكم عن الهجرة إليكم بعد طردكم من الأوطان ، ومن القصد إلى قتالكم حتى يردونكم عن دينكم ، لتخسروا دنياكم وآخرتكم ، فلا ينبغي أن تحجموا عن قتالهم عند الإمكان ، ولا أن تحفلوا بإنكارهم عليكم القتال في الشهر الحرام .