{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون 216 يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 217 إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم 218}
/م216
{ كتب عليكم القتال} الخ قالوا إن هذه أول آية فرض فيها القتال وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة وقد كان القتال ممنوعا فأذن فيه بعد الهجرة بقوله تعالى في سورة الحج{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} ( الحج:39 ) الآيات ثم كتب في هذه السنة .ونقل عن ابن عمر وعطاء أن القتال كان واجبا في ذلك الوقت على الصحابة فقط وأن هذا هو المراد من الآية .وذهب السلف إلى أن القتال مندوب إليه واستدلوا بقوله تعالى في سورة النساء{ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} ( النساء:95 ) وهو مردود بأن القاعدين هنا هم أولو الضرر العاجزين عن القتال لما نطقت به الآية وأما القاعدين كراهة في القتال فحكمهم في سورة براءة ، وقيل إن القتال يجب في العمر مرة واحدة .
وقد انعقد الإجماع بعد هذا الخلاف الذي كان في القرن الثاني على أن الجهاد من فروض الكفاية إلا أن يدخل العدو بلاد المسلمين فتحا فيكون فرض عين .أما قوله تعالى{ وهو كره لكم} فقد عده بعضهم من المشكلات إذ كيف يكره المؤمنون ما يكلفهم الله تعالى إياه وفيه سعادتهم ، وحمله جمهور المفسرين على الكره الطبيعي والمشقة وهذا لا ينافي الرضى به والرغبة في القيام بأعبائه من حيث إنه مما أمر الله وجعل فيه المصلحة لحفظ دينه كما قال في آيات الإذن به من سورة الحج{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد} ( الحج:40 ) الخ .
وقوله{ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} معناه أن من الأشياء المكروهة طبعا ما تأتونه وأنتم ترجون نفعه وخيره كشرب الدواء البشع المر ، ومن الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضر والأذى في نفسه أو من جهة منازعة الناس له فيه هذا تقرير ما قاله المفسرون ولكن الأستاذ الإمام قال إنه لا يظهر على هذا معنى وجيه لقوله عز وجل{ والله يعلم وأنتم لا تعلمون} لأن هذا مما يعلمه الناس ويتوقعونه لا مما هداهم الكتاب إليه بعد أن كانوا غائبين عنه ، والصواب أن{ عسى} في مثل هذا المقام تفيد أن ما دخلت عليه من شأنه أن يقع ، لا أنه مرجو من المتكلم ومتوقع ، وأن الكره محمول على غير ما حملوه عليه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والعرب في قتال مستحر ، ونزاع مستمر ، وكان الغزو للسلب والنهب ، من أعظم أسباب الكسب ، وكان الصحابة قد ألفوا القتال واعتادوه ومرنوا عليه فلم يكن عندهم مكروها بالطبع ، ولكنهم كانوا يرون أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به ويخشون أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه .
وثم وجه آخر وهو أن كرههم للقتال لم يكن خوفا على أنفسهم أي يبيدوا ولا على الحق الذي حملوه أن يضيع ، وإنما هو حب السلام والرحمة بالناس التي أودعها القرآن في نفوسهم ، وثبتها الإيمان في قلوبهم ، واختيار مصابرة الكفار ومجادلتهم بالدليل والبرهان ، دون مجادلتهم بالسيف والسنان ، رجاء أن يدخلوا في السلم كافة ويتركوا خطوات الشيطان ، وعلى هذا الوجه يظهر من معنى{ عسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} ما لا يظهر في المعنى الذي قبله ويفيد قوله{ والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أن قياسكم جميع الكافرين على أنفسكم ، وتوقعكم أن يزين لهم من الإيمان ما زين لكم ، هو من الأقيسة الباطلة ، فإن الاستعداد في الناس يتفاوت تفاوتا عظيما ، فمنهم من ساءت خليقته ، وأحاطت به خطيئته ، حتى لم يبق لروح الحق منفذ إلى عقله ، ولا لحب الخير طريق إلى قلبه ، فلا تنفع فيه الدعوة ، ولا ترجى له الهداية ، ومثل هذا الفريق في الأمة كمثل الدم الفاسد في الجسم إذا لم يخرج منه فإنه يفسده .
ولم يأمر الله بقتالهم ، إلا رحمة بمجموع الأمة أن يفسد بهم ، فلا يقاسون على من سلمت فطرتهم وحسنت سريرتهم ، وحتى كان وقوعهم في الباطل جهلا منهم بالحق وإصابتهم بعض الشر ، لعدم التمييز بينه وبين الخير ، وأنتم أيها المؤمنون لا تعلمون كنه استعداد الناس ولا ما يكون من أثره في مستقبلهم ، وإنما الله هو الذي يعلم ذلك فامتثلوا أمره .
وأما معناه على الوجه الأول مما أورد الأستاذ الإمام فهو أن سنة الله تعالى قد مضت بأن ينصر الحق وحزبه على الباطل وأحزابه ما استمسك حزب الله بحقهم فأقاموه ودعوا إليه ودفعوا عنه ، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغري به أعداءه ويطعمهم بالتنكيل بحزبه ، حتى يتألبوا عليهم ويوقعوا بهم ، وأنه قد سبق في علم الله تعالى أن الله لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم ، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} ( البقرة:249 ) وقد علم الله كل هذا وأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه ، وستجدونه في امتثال أمره ، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه .
ومن عجيب ما ترى العينان نقل المفسرين بعضهم عن بعض أن المراد بقوله تعالى{ وعسى أن تكرهوا شيئا} جميع التكاليف التي أمروا بها ، وبقوله تعالى{ وعسى أن تحبوا شيئا} جميع ما نهوا عنه .ولا يوجد مسلم على وجه الأرض يكره طبعه وتستثقل نفسه جميع ما أمر الله تعالى به ، وتحب جميع ما نهاه عنه ، ولكن التقليد يذهب المرء عن نفسه وما تحب وتكره ، وعما يراه ويعرفه في الناس بالمشاهدة والاختبار .فليتأمل القارئ الفرق بين هذا القول الذي يعرف بطلانه من نفسه وبين ما قاله الأستاذ الإمام ، يعرف قيمة استعمال العقل فيما خلق له من غير تقييد بالتقليد وكم ترك الأول للآخر .