)كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة:216 )
التفسير:
قوله تعالى:{كتب عليكم القتال} أي فرض ؛ف «الكتْب » هنا بمعنى الفرْض ،كما في قوله تعالى:{كتب عليكم الصيام} [ البقرة: 183] ،وقوله تعالى:{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [ النساء: 103] .
وقوله تعالى:{القتال} أي قتال أعداء الله الكفار ؛و{القتال} مصدر قاتل .
قوله تعالى:{وهو كره لكم}؛{كره} مصدر بمعنى اسم المفعول - يعني: وهو مكروه لكم - ؛والمصدر بمعنى اسم المفعول يأتي كثيراً ،مثل:{وإن كن أولات حمل} [ الطلاق: 6] يعني: محمول ؛وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »{[366]} ،أي مردود .
وجملة:{وهو كره لكم} في محل نصب على الحال ؛والضمير{هو} يعود على القتال ؛وليس يعود على الكتابة ؛فإن المسلمين لا يكرهون ما فرضه الله عليهم ؛وإنما يكرهون القتال بمقتضى الطبيعة البشرية ؛وفرق بين أن يقال: إننا نكره ما فرض الله من القتال ؛وبين أن يقال: إننا نكره القتال ؛فكراهة القتال أمر طبيعي ؛فإن الإنسان يكره أن يقاتل أحداً من الناس فيقتله ؛فيصبح مقتولاً ؛لكن إذا كان هذا القتال مفروضاً علينا صار محبوباً إلينا من وجهٍ ،ومكروهاً لنا من وجهٍ آخر ؛فباعتبار أن الله فرضه علينا يكون محبوباً إلينا ؛ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصرون أن يقاتلوا ؛وباعتبار أن النفس تنفر منه يكون مكروهاً إلينا .
قوله تعالى:{وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم}؛{عسى} تأتي لأربعة معانٍ: للرجاء ؛والإشفاق ؛والتوقع ؛والتعليل ؛والظاهر أنها هنا للتوقع ،أو للترجية - لا الترجي - ؛فإن الله عزّ وجلّ لا يتَرجى ؛كل شيء عنده هين ؛لكن الترجية بمعنى أنه يريد من المخاطَب أن يرجو هذا ؛أي افعلوا ما آمركم به عسى أن يكون خيراً ؛وهذا الذي ذكره الله هنا واقع حتى في الأمور غير التعبدية ،أحياناً يفعل الإنسان شيئاً من الأمور العادية ،ويقول: ليتني لم أفعل ،أو ليت هذا لم يحصل ؛فإذا العاقبة تكون حميدة ؛فحينئذ يكون كره شيئاً وهو خير له ؛القتال كره لنا ولكن عاقبته خير ؛لأن المقاتل في سبيل الله حاله كما قال عزّ وجلّ آمراً نبيه أن يقول:{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} [ التوبة: 52] - يعني: لا بد من إحدى حسنيينوهما إما النصر ،والظفر ؛وإما الشهادة .
قوله تعالى:{وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم}؛وذلك أيضاً كثيراً ما يقع: يحب الإنسان شيئاً ،ويلح فيه ،ثم تكون العاقبة سيئة ؛والإنسان بمثل هذه الآية الكريمة يسلي نفسه في كل ما يفوته مما يحبه ،ويصبر نفسه في كل ما يناله مما يكرهه .
قوله تعالى:{والله يعلم وأنتم لا تعلمون}: هذه الجملة كالتعليل لقوله تعالى:{وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم}؛كأنه قال: إنكم لا تعلمون الخير ،والشر فيما قدِّر لكم ؛ولكن الله يعلم ذلك .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فرضية الجهاد ؛لقوله تعالى:{كتب عليكم القتال}؛لكن لابد من شروط ؛منها القدرة على قتال العدو بحيث يكون لدى المجاهدين قدرة بشرية ،ومالية ،وعتادية ؛ومنها أن يكونوا تحت راية إمام يجاهدون بأمره .
2 - ومنها: أنه لا حرج على الإنسان إذا كره ما كتب عليه ؛لا كراهته من حيث أمَر الشارع به ؛ولكن كراهته من حيث الطبيعة ؛أما من حيث أمر الشارع به فالواجب الرضا ،وانشراح الصدر به .
3 - ومنها: أن البشر لا يعلمون الغيب ؛لقوله تعالى:{وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} .
4 - ومنها: أن الله قد يحكم حكماً شرعياً ،أو كونياً على العبد بما يكره وهو خير له .
5 - ومنها: عموم علم الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{والله يعلم}؛فحذف المفعول يفيد العموم ،كما قال تعالى:{ألم يجدك يتيماً فآوى * ووجدك ضالًّا فهدى * ووجدك عائلًا فأغنى} [ الضحى: 6 - 8]: كلها محذوفة المفاعيل: آواك ،وآوى بك أيضاً ؛وأغناك ،وأغنى بك ؛وهداك ،وهدى بك ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؛وعالة فأغناكم الله بي »{[367]} .
6 - ومنها: ضعف الإنسان ،وأن الأصل فيه عدم العلم ؛لقوله تعالى:{وأنتم لا تعلمون} ،كما قال تعالى:{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [ النحل: 78] ،وقال ممتناً على رسوله ( ص ):{وعلَّمك ما لم تكن تعلم} [ النساء: 113] .