لماذا لم يشرع القتال في بدء الدعوة ؟
لم يكن القتال مفروضاً على المسلمين ،أو مأذوناً فيه لهم في صدر الدعوة الإسلامية في مكة ،فكانت وصايا النبيّ ( ص ) للمؤمنين الذين يضطهدون ويعذبون ،تتلخص بالصبر ،والهجرة ،والتحمل ،والتضحية… بل قد تصل إلى الإذن لهم بأن يقولوا ما يُراد منهم أن يقولوه من كلمات الكفر تحت ضغط التعذيب والإكراه ،كما حدث لعمّار الذي نزلت فيه هذه الآية:] مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [ النحل:106] بعد أن قال كلمة الكفر أمام حالة العذاب الصعبة .
ويمكن التوقف عند احتمالات أربعة حالت دون تشريع القتال في هذه المرحلة:
الأول: ربما كان ذلك خاضعاً للمرحلة الأولى التي أراد اللّه لدينه أن ينطلق منها في حياة النّاس ،فقد يبدو من الضروري أن يعيش المؤمنون الأوّلون المعاناة الداخلية والخارجية في ما يتعرّضون له من ضغوط نفسية وحياتية من قبل المشركين .وقد يساهم ذلك في خلق جوّ من التساؤل والاهتمام والتطلّع والتعاطف لدى النّاس الآخرين من خلال المؤثرات المتنوّعة التي تحكم حالة السلم في الدعوة .
الثاني: قد يكون الدخول في صراع عنيف مع قريش أمراً غير عملي من خلال حسابات توازن القوى ؛باعتبار أنَّ الدعوة الجديدة انطلقت من المركز الخاضع لسيطرة قريش ،ما يجعل من العسير أو المستحيل الدخول في صراع القوّة معها .
الثالث: حاجة الدعوة إلى الأجواء التي تسمح بالكلمة الهادئة التي لا تضيع في صخب القتال والسلاح لتترك تأثيرها الإيجابي في داخل النفوس ،ولو من خلال المواقف السلبية ضدّها .فإنَّ أية دعوة تحتاج إلى فترة من الهدوء الذي يحملها إلى الأسماع والأفكار ،بعيداً عن أية عناصر أخرى ضاغطة ،لأنَّ عظمة الدعوة الإسلامية أنها جاءت لتخاطب العقول فتفرض عليها قناعاتها بالحجّة والحوار بدلاً من القوّة والضغط .وذلك ما يفرض أن تعمل على تهيئة الوسائل العملية التي تكفل ذلك كلّه .
ولعلّ هذه النقطة هي التي فرضت هذا الأسلوب السلمي الصابر المهاجر في أجواء مكة ،باعتبارها المكان الأمثل الذي يمكن فيه للدعوة أن تصل إلى كلّ قلب وإلى كلّ أذن ،لأنها عاصمة الجزيرة العربية الثقافية والدينية ،ما يجعلها مركزاً للتجمع في المواسم الثقافية والدينية كموسم عكاظ والحج ،أو في المواسم التجارية عقيب رحلة الشتاء والصيف ،الأمر الذي لا بُدَّ فيه للدعوة من أن تحافظ على وجودها في مكة أطول مدّة ممكنة لاستغلال ذلك في تحقيق الهدف الكبير ،بحيث نستطيع الوصول إلى بعض الأجواء العربية التي لا يمكن أن تصل إليها لولا ذلك .
الرابع: لعلّ هدف النبيّ ( ص ) في منع المؤمنين في مكة من الدخول في صراع مسلّح مع قريش ،هو إعطاء المؤمنين الذين يدخلون في الدِّينوهم ضعفاءالفرصة للحصول على القوّة بطريقة تدريجية خالية من الفروض الصعبة الضاغطة على إرادتهم وحيلتهم ،لئلا يشعروا بالحرج في البداية بالتكليف في القتال ،وبذلك يستطيعون أن يتعمّقوا أكثر في إيمانهم ،ويسيروا في مدارج النمو في العقيدة والعمل بأسلوب واقعي متحرّك يوحي لهم بالامتداد والحركة في جوّ من الفكر الهادىء والخطوات الهادئة الواقعية .
وهكذا استطاع الإسلام أن يركز قواعده بخلق جيل من الدعاة الذين عاشوا المعاناة بأعمق معانيها وأرحب مجالاتها وأشدّ ظروفها ،فانطلقوا مع النبيّ محمَّد ( ص ) إلى المدينة ،ليركزوا قواعد المجتمع الإسلامي الجديد .وبدأت المرحلة الجديدة للإسلام في عملية التقدّم إلى الأمام من خلال صنع القوّة الذاتية التي تواجه التحدّي بمثله ،وتخترق الحواجز الموضوعة أمامها في الطريق من أجل أن تمنعها من التقدّم .وكان القتال شريعة هذه المرحلة .
وبدأت الصعوبات النفسية تقف أمام هذه الشريعة في نفوس بعض المسلمين الذين استراحواأو هكذا توحي الآيةللدعوة المسالمة التي تتلقى الضربات دون أن تردّ عليها ،فإنَّ الجهد الذي كانوا يلاقونه من خلال الاضطهاد لم يكن ليعرّضهم للخطر الكبير الذي يتعرّضون له من خلال القتال ،بل كلّ ما هناك أنه يثير فيهم حالات نفسية صعبة ضاغطة كانوا يتحملونها بصبر وإيمان ،مع الاحتفاظ بخطّ السلامة الوديع في الحياة .وقد يبدو أنهم تأففوا من هذه الفريضة الصعبة ،أو اعترضوا ،أو حاولوا التخلّص منها ،كما توحيه كلمة] وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ[،لأنه كان يعني السير إلى الموت باختيار ،كما يعني الاستمرار فيه مدى استمرار التحدّيات الكافرة المشركة .
وكانت طريقة الإسلام أن يدفع المسلمين إلى الممارسة العملية من خلال القناعة الفكرية والاستجابة الروحية ،بالإضافة إلى الاستسلام الإيماني الذي تفرضه العقيدة الإسلامية المرتكزة على التسليم للّه في كلّ الأمور ،فكانت هذه الآية من أجل تقرير الحقيقة الواقعية في ما يحبّه الإنسان مما لا يكون فيه كبير مصلحة له ،أو في ما يكرهه الإنسان مما لا يكون فيه أية مضرة له ،الأمر الذي يوحي للإنسان بأنَّ الحالات النفسية الانفعالية لا يمكن أن تكون مقياساً للحركة السلبية أو الإيجابية في الحياة ،لأنَّ الانفعال منطلق من السطح لا من العمق ،باعتباره يمثّل حالة ردّ فعل لصدمة طارئة ،أو نزوة سريعة ،أو عاطفة ساذجة فلا بُدَّ من التعمّق في دراسة القضايا والمواقف والأشياء ،من أجل النفاذ إلى واقعها ،لمعرفة طبيعة المصالح والمفاسد الواقعية الكامنة فيه ،لينتهي إلى النتيجة الحاسمة التي تبعده عن الاستسلام لانفعالاته السريعة .
وقد يستطيع الإنسان اكتشاف ذلك من دراسة تاريخ حياته الشخصي في ما واجهه من حوادث الانفعال ،وما اكتشفه من خطأ الاعتماد عليها في ظهور السلبيات في ما إذا كان الانفعال يتجه إلى الإيجابية ،أو ظهور الإيجابيات في ما إذا كان يتجه إلى السلبية .فليست الكراهة مؤشراً لضدّ الحقّ في ما يكرهه ،وليست المحبة مؤشراً للحقّ في ما يحبّه .إنه شيء يكتشفه الإنسان من خلال تجاربه الشخصية .فإذا تحرّك في خطّ الإيمان فإنه يكتشف ،من خلال النافذة التي تطل به على الحقيقة الإيمانية ،أنَّ اللّه يعلم حقائق الأشياء ،ويعلم ما يضر الإنسان وما ينفعه منها ،ويعرف كيف يشرّع للإنسان ما ينسجم مع مصلحته على أساس الحكمة والرحمة .أمّا الإنسان ،فهو لا يعلم إلاَّ القليل القليل منها ،ولذلك نراه يتمرّد ،ويشك ،وينفعل .ومن خلال ذلك ،انطلق القرآن في معالجة الموقف من ناحية فكرية ترتكز على التجربة ،ومن ناحية إيمانية ترتكز على العقيدة .فطريقة القرآن ،في حلوله لمشاكل الإنسان الداخلية ،تتمثّل في قيادته إلى القناعة من خلال الواقع والإيمان .
ويبقى أنَّ الآية توحي بأنَّ هناك سؤالاً مكبوتاً يتحرّك في الداخل بعد تشريع القتال ،أو سؤالاً مطروحاً بطريقة مليئة بالمرونة والاستيحاء ،فكانت الآية جواباً عن ذلك كلّه .
كتب عليكم القتال وهو كره لكم:
] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ[ أي: فرض اللّه عليكم القتال في فريضة الجهاد في سبيل اللّه ،بعد أن منعكم منه مدّةً من الزمن في مرحلةٍ قاسية كانت مصلحة الدعوة فيها الأخذ بأسباب الصبر ،والدفع بالكلمة الطيبة ،والبُعد عن ردّ التحدّي بمثله ،حتى يمتد الإسلام في ساحته ،ويستعد لتركيز قواعده في موقع قوّة جديد ،بحيث لا يملك الآخرون إسقاطه بقوّتهم ،لأنّه يملك آنذاك قوّة الردّ في ساحة المجابهة ،] وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ[ من خلال الطبيعة الإنسانية التي لا تنسجم مع كلّ الأعمال الشاقة أو الخطرة التي قد تؤدي إلى الألم أو الجرح أو الموت .فإنَّ الإنسان مفطور على حبّ الراحة والحياة ،فيكرهبطبيعتهكلّ ما يسلبه ذلك .
وفي ضوء ذلك ،فإنَّ هذه الكراهة الذاتية لا تتنافى مع رغبة المؤمنين بالجهاد طلباً لمرضاة اللّه ،وطمعاً في الحصول على ثوابه ،لأنَّ الإنسان يرغب في الأعمال الشاقة ،أو الأسفار الخطرة ،أو نحو ذلك ،من أجل تحصيل المزيد من المال أو الجاه أو السلطة ،أو القرب من اللّه تغليباً للمصلحة الراجحة أو الملزمة على المفسدة المرجوحة أو غير الملزمة .] وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا[ من خلال بعض المشاكل التي يثيرها في حياتكم كالمخاطرة بالروح في الجهاد ،والمشقة في السفر في التجارة ،والسهر في الليل لطلب العلم ،] وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[ لما يترتب عليه من النتائج الكبيرة المتصلة بالدرجات الرفيعة التي تبلغونها في الأخذ بما تكرهونه .فإنَّ الجهاد يضع المؤمنين بين خيارين كلاهما خير: إمّا النصر ،الذي يؤدي إلى الكثير من امتداد الإسلام في حركة الإنسان في الحياة وسيطرته على الواقع مما يجعل المسلمين في الموقع الكبير في النّاس ،وإمّا الشهادة التي ترفع درجة المؤمنين عند اللّه ،فيحصلونمن خلال ذلكعلى رضوانه وعلى جنته .
] وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ[ لأنَّ النتائج السلبية التي تحصل لكم ،من خلال ذلك ،قد تكون أشدّ خطورةً وإيلاماً مما تأملونه ،أو تحبّونه منه ،من النتائج الإيجابية .فإنَّ القعود عن الجهادانطلاقاً من حبّ الحياةيؤدي إلى سيطرة الكفر على الإسلام ،وخضوع المسلمين للكافرين ،مما يوجب الذل والهوان والسقوط المعنوي والسياسي والأمني والاقتصادي ،والحرمانمن جانب آخرمن ثواب اللّه ونعيمه في جنته .
] وَاللَّهُ يَعْلَمُ[ ما يصلحكم ويفسدكم ،مما قد تكون بداياته سيئة ونهاياته حسنة ،أو بالعكس ،لأنه يعلم عمق الأمور وجوهرها .] وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[ إلاَّ السطح البارز منها فتقبلون على البداية الحلوة في غفلةٍ عن النهاية المرة ،وتتحرّكون نحو الأمور من خلال ظواهرها ،ولا تبحثون عن بواطنها ،فتقعون في الشر وأنتم تريدون الخير ،أو تخسرون الخير حيث يخيّل إليكم أنه الشر .ولذلك فعليكم أن تنطلقوا إلى ما يأمركم به ،لأنَّ فيه الخير كلّه في الدنيا والآخرة ،وأن تبتعدوا عمّا ينهاكم عنه لأنَّ فيه خسران الدنيا والآخرة .
قال الطبرسي في مجمع البيان: «أجمع المفسّرونإلاَّ عطاءأنَّ هذه الآية دالة على وجوب الجهاد وفرضه ،غير أنه فرضٌ على الكفاية ،حتى أن لو قعد جميع النّاس عنه أثموا به ،وإن قام به من في قيامه كفاية وغناء سقط عن الباقين .وقال عطاء: إنَّ ذلك كان واجباً على الصحابة ،ولم يجب على غيرهم ،وقوله شاذ عن الإجماع » .
الإيحاءات والدروس:
أولاً: لا بُدَّ للعاملين في سبيل اللّه من استيحاء هذه الآية في غير هذا الجانب من قضايا التشريع أو العمل في سبيل اللّه ،مما قد يثير احتجاج البعض واستنكار البعض الآخر ،أو يدفعهم إلى التمرّد وعدم الانضباط ،وذلك بأن تنطلق التربية الإيمانية على أساس الإحساس بضرورة التحرّك من واقع التجربة وحركة العقيدة ،ليستوحيهما الإنسان في كلّ أموره العملية قبل أن يندفع في اتخاذ المواقف السلبية والإيجابية .وبذلك تتأكد الشخصية الإسلامية في مواقعها الصلبة الواعية ،فلا تهتز أمام حالات الانفعال ،ولا تسقط تحت تأثير ردود الفعل الطارئة السريعة ،ولا تندفع في طريق لا تعرف نهاياته وأبعاده ؛بل تقف أمام الأشياء وقفة تأمّل وتفكيرمن دون فرق بين حالات التحدّي أو حالات الاسترخاءلتدرس كلّ شيء من مواقعه الذاتية بكلّ تجرّد وموضوعية ،فلا يمكن للأعداء أن يقودوها إلى معركة لم تحدّد مسارها ومنطلقاتها وأوقاتها ،ولا يمكن للأصدقاء أن يدفعوها في طريق لا تعرف كيف تتعامل معه في خطواته البطيئة والسريعة ،بل تقف وسطاً بين الخطوط لتختار الخطّ الذي يناسبها من خلال دراسة موضوعية واعية مبنية على العلم والإيمان .
ثانياً: إنَّ الإسلام يواجه الواقع في تشريعاته ،فهو يعترف بالواقع الصعب والتجربة المرّة ،ولكنَّه يوحي للإنسان بالأسرار العميقة ،والأرباح الكبيرة ،والنهايات السعيدة التي تكمن في القضية التي يعالجها التشريع ،بحيث تحقّق للإنسان رغباته المادية أو المعنوية التي يتجاوزمن خلال الانفتاح عليهاكلّ الصعوبات والمرارات ،فيرحب بها بدلاً من أن يتعقد منها .
ثالثاً: أن تتحرّك حسابات الخير والشر لدى الإنسان على أساس النظرة الواسعة العميقة لما عند اللّه ،مما يدركه العقل بالتأمّل أو يكشفه الوحي ،لتكون الموازين لدى الإنسان المؤمن منطلقة من موازين السَّماء ،فلا تستغرق في خصوصيات موازين الأرض .
رابعاً: الاطمئنان إلى حكمة التشريع الإلهي من خلال الحقيقة الإيمانية ،وهي أنَّ اللّه هو الذي يعلم خفايا الأمور وبواطنها ونهاياتها ،فلا بُدَّ من الثقة بالتشريع بأنه يختزن الخير كلّه للإنسان بعيداً عن المشاعر والانفعالات الذاتية التي يثيرها في النفس سلباً أو إيجاباً ؛فلا يرفض الحكم الشرعي لعدم انسجامه مع رغباته ،لأنَّ عنصر الرغبة لا يتصل بالعمق من المصالح والمفاسد ،بل يتصل بالجانب السطحي من حياة الإنسان .