[ كتب عليكم القتال وهو كره لكم] بين سبحانه الطريق لدفع الضراء ، والآلام الداخلية ، وهو التعاون ، ثم بين بعد ذلك ما يدفع البأساء ، وهي الشدائد التي تدهم الجماعة من الخارج ، وهو أخذ الأهبة والاستعداد للقتال ، فقال تعالى:[ كتب عليكم القتال وهو كره] وقد قرئ بضم الكاف وفتحها ، والضم أكثر ، وهو بمعنى الكراهة ، أي القتال لشدة ولايته وما فيه من إزهاق الروح كأنه الكراهة نفسها ، ويصح أن يكون كره بمعنى المكروه أي خبز بمعنى المخبوز ، أي هو أمر مكروه في ذاته وعلى قراءة الفتح يكون فيه معنى الإكراه ، فيكون المعنى عليه:كتب عليكم القتال ، وهو أمر أنتم تلجئون إليه إلجاء ، وتضطرون إليه اضطرارا ، إذ أن الكره ضد الطوع ، فكأنكم لا تدخلون الحرب طائعين ، بل تدخلوها مكرهين كارهين ، مضطرين غير مختارين ، ألجأكم إليها الاعتداء عليكم ، وانتهاك الحرمات والفتنة في الدين ، فأنتم مضطرون مكرهون على القتال ، لإزالة الفتنة وصونا للحرمات ، وذودا عن الدين ، تقاتلون حتى يكون الدين كله لله .
و الأمر على قراءة الفتح واضح ، لأن القتال في الإسلام أمر غير مرغوب فيه لذاته ، إنما اضطر إليه المسلمون اضطرارا ، كما قال تعالى:[ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير 39]( الحج ) .
و أما على القراءة المشهورة ، وهي قراءة ضم الكاف ، فكيف كان القتال مكروها ، مع أن الصحابة كان الموت في سبيل الله أحب إليهم ، وكانوا يرون الشهادة في سبيل الحق غنما وليست غرما ؟ .
لقد قال المفسرون:إن القتال مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد تتلوها شدائد ، ومشقات تتلوها مشقات ، فلا يمكن أن يكون محبوبا مع ما فيه من صعاب ، ومع ما يكتنفه من شدائد ، فهو كان مكروها لشدائده ، والعافية أحب .
و لكن ذلك لا يتفق مع ما عرف عن العرب عامة من أنهم أهل بأس وقوة ،و عزيمة ونجدة ، ولا ما عرف عن أصحاب محمد خاصة من أنهم كانوا يتنافسون على أماكن الردى ، يلقون بأنفسهم في مواطن الموت ،لا يهمهم إلا أن يغنموا النصر أو يغنموا الشهادة ، ففي كليهما فضل عظيم .
و لذا لابد أن نبحث عن سبب آخر للكراهة ، وذلك السبب هو الذي يتفق مع الهدى المحمدي ، والمنزع الإسلامي ، ذلك أن الإسلام أودع قلوب المؤمنينرأفة ورحمة ، وإلفا وائتلافا ، وسلاما واطمئنانا ،و برا بالرحم ، وحنانا على الأقربين ، وتلك المبادئ لاتلتقي في قلب مع الحب في إزهاق الروح ، وقتل النفوس ، وإلقاء الحتوف في ميادين القتال ، فليس من خلق المؤمن المحب للسلام ، أن يكون محبا للقتال ، ولعله كان من الصحابة من يؤثرون مطاولة المشركين ، رجاء إيمانهم ، ورغبة في هدايتهم ، مساوقا بذلك الهدي الإسلامي ، ولكن الله سبحانه وتعالى كتب القتال مع هذه الكراهة ، لأنه الأهدى سبيلا بعد أن قامت الحجة ،و وضحت المحجة ، واستطالوا على المؤمنين بالأذى ،و أخرجوهم من ديارهم ، وألبوا العرب عليهم ، وجمعوا الجموع .
[ و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم]أي عسى أن تكرهوا القتال رحمة بمخالفيكم ورجاء هدايتهم ، ورجاء الخير منهم ، وهم لا يريدون لكم إلا خبالا ، ولو سكتم عنهم لكان أمرهم وأمركم وبالا ، وفسدت أمورهم وأموركم ، واضطربت حالهم وحالكم ، فكانوا يغيرون عليكم ، وأنتم ساكتون ، ولو قاتلتموهم وأريتموهم الحق مؤيدا بالسلاح يقمع رءوس المعاندين المعتدين الذين يفتنون الناس عن دينهم ويحاولون نشر الفساد ، لكان ذلك خيرا لكم ولهم . ووجه الخير لكم أنه رد الاعتداء ، ووقف الأعداء ، والذود عن الحياض ، وأما وجه الخير لهم فهو أنهم عساهم يهتدون ، فإن الناس أقسام ثلاثة في قبول الحق:نوع يقنعه الدليل ويهديه البرهان ، ونوع تجديه الموعظة الحسنة ، ونوع جائر بائر طاغ فاسد مفسد لا تجدي فيه الموعظة ولا يقنعه الدليل ، فقال الله فيه:[ و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس . . .25] ( الحديد ) فبقتاله قد يسكت عن الشر واللجاجة فيه ، ويتدبر الأمر من جديد ، كما قال أبو سفيان في غزوة:لو كانت آلهتنا تنفع وتضر لنفعتنا! فكان ذلك هوالسبيل لدخول الإيمان إلى قلبه ، فآمن وصار من المهتدين وإن لم يكن من السابقين بالقبول والإحسان .
ثم عسى أن تحبوا الأمن والسلام وتؤثروا المحبة على الخصام ، وأعداؤكم يتربصون بكم الدوائر ، ويرتعون في الشر رتعا شديدا ، فلو تركتموهم وأمرهم لكان ذلك شرا لكم ، ولكانوا هم قوما بورا ، لا يرشدون ولا يسترشدون ، فمن الرحمة ما تحوي في نفسها أقصى الظلم ، ومن الرفق ما يشجع أشد العنف ، ولذا ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله:[ و الله يعلم وأنتم لا تعلمون] فالله يعلم مغيب الأمور ومكنون المستقبل وأنتم لا تعلمون ، والله يعلم ما تكنه الصدور وما تخفيه وأنتم لا تعلمون ، والله يعلم ما تصلح به أمور الناس في الدنيا والآخرة وأنتم لا تعلمون ، وأنى يكون علم المخلوق كعلم الخالق ، وعلم الناقص كعلم الكامل ، وعلم القاصر كعلم اللطيف الخبير .
و قبل أن ننهي الكلام في تفسير هذه الآية نقرر أمرين:
أحدهما:أن قوله تعالى [ و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم] هي قضية عامة في كل التكليفات الشرعية يجب أن نقر صاغرين بها ، وأن نقبلها طائعين ما دامت قد ثبتت بدليل قطعي لا شبهة فيه ، وألا نمكن أهواءنا من التحكم في أمور ديننا ،فعسى أن يكون ما نحب شرا ، وما نكره خيرا ، كما يجب ألا نتململ بأحكام الشارع بدعوى معارضتها للمصالح ، أو لروح العصر ، فقد يكون ذلك هوى لا مصلحة ، وفساد ومضرة . وليس صالحا ومنفعة! .
ثانيهما:أن هذه الآية فيها فرضية القتال ، وظاهرها أنها تفرض الجهاد على جميع الناس القادرين عليه ، وقد قال بعض العلماء لهذا:إن الجهاد فرض عين على القادرين عليه ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة الجاهلية "{[273]} وقال بعض العلماء:إن الجهاد فرض كفاية إذا قام به بعض سقط الحرج عن الباقين ، وقد قال الزهري:الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد ، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين ، وإذا استغيث أن يغيث ، وإذا استنفر أن ينفر . وقد أجمع العلماء على أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال على كل المسلمين ، كل بمقدار قدرته ،و قد ابتلى الله أكثر البلاد الإسلامية بالعدو نزل بساحتها ، فالجهاد حق على كل مسلم حتى لا يكون فيها عدو متحكم ، وتكون العزة لله ولرسوله ، وللمؤمنين .