ولقد أخذ يبين الله سبحانه أساس التكافل الاجتماعي ، وهو معاونة الفقير والضعيف ودفع حاجته بالمال ، ولذا قال تعالى:[ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل] لقد سألوا عن نوع ما ينفقون ، وقد تضافرت الآيات الحاثة على الإنفاق الداعية إليه ، باعتبار أن التعاون الاجتماعي ركن من أركان الإسلام ، فقد قرن الله سبحانه وتعالى الصلاة بالزكاة باعتبارهما صنوين لا يفترقان ، سألوا عن نوع ما ينفقون ومقداره بعد أن سمعوا الدعوة إليه ، ولكن الله سبحانه وتعالى قال في الإجابة عن هذا السؤال:[ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين] . وظاهر القول أن الجواب ليس عن السؤال ، لأنهم سألوا عن النوع ، فأجيبوا عن المصرف ، وعلى حد تعبير علماء الاقتصاد:سألوا عن وعاء الفريضة فأجيبوا بموضع صرفها ، فلماذا عدل الله سبحانه وتعالى عن الإجابة عن سؤالهم إلى هذه الإجابة ؟ الجواب عن ذلك أن النوع والمقدار يبينه المصرف ، فأجاب عن المصرف ، ليعلموا أن المطلوب هو سد حاجة هؤلاء ، والنوع الذي يسد حاجتهم مطلوب إنفاقه . فالإجابة ببيان المصرف فيها أسلوب حكيم ، وفيها إيجاز معجز ، لأنه قد بين بها موضع الصرف ، وإن لم يسألوا عنه ، وبين فيها المقدار ، لأن حاجة هؤلاء هي التي تعنيه ، وفيها بين النوع ، فإن كانوا محتاجين إلى ثياب يكسون ، وإن كانوا محتاجين إلى طعام يطعمون ، وإن كانوا محتاجين إلى مأوى يؤوون . وفي هذه الإجابة فوق ذلك تصريح بحق هؤلاء على ذويهم وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه ، وهو أن يمكنوا من العيش طاعمين كاسين آوين مطمئنين ، وأي مقدار ينفق في ذلك من حقهم على ذويهم وعلى الناس .
و إن ذلك الحق واجب على كل من عنده يسار بالنسبة لهم ، واليسار يفهم في قوله تعالى [ ما أنفقتم من خير] فكلمة خير تطلق بالنسبة للمال على الوفير منه ، لا على القليل ، ومن ذلك قوله تعالى:[ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين . . .180] ( البقرة ) فالخير هنا هو المال الوفير كالخير في تلك الآية الكريمة .
ذكر سبحانه أن موضع الإنفاق هم الوالدان ، والأقربون ، واليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل ، ذكر هؤلاء بذلك الترتيب ، وإذا كان العطف بالواو لا يفيد ترتيبا من الناحية النحوية فمن المؤكد أن الترتيب في الذكر يفيد معنى الأولوية من الناحية البلاغية ، فالترتيب في الذكر إذن يشير بلا شك بأولوية البعض على البعض ، فيسد حاجة الأبوين ، ثم يسد حاجة الأقربين ، ثم يسد حاجة المحتاجين من غير أسرته .
و قد روي في سبب النزول عن عطاء:أن هذه الآية نزلت في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إن لي دينارا ، فقال:"أنفقه على نفسك "قال:إن لي دينارين ، قال:"أنفقهما على أهلك"قال:إن لي ثلاثة ، قال:"أنفقها على خادمك "قال:إن لي أربعة ، قال:"أنفقها على والديك "، قال:إن لي خمسة قال:"أنفقها على قرابتك "قال:إن لي ستة ، قال:"أنفقها في سبيل الله تعالى "{[267]} . وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تصدقوا "، فقال رجل:عندي دينار . قال:"تصدق به على نفسك "قال عندي دينار آخر ، قال:"تصدق به على زوجك "قال:عندي دينار آخر قال:"تصدق به على ولدك "، قال عندي دينار آخر ، قال:"تصدق به على خادمك "قال:قال عندي دينار آخر ، قال:"أنت أبصر "{[268]} .
فهذه الآثار تبين أن الترتيب في الذكر هنا يفيد الأولوية في العطاء إن ضاق الخير عن أن يشمل الأنواع كلها ، وقد ذكر الله سبحانه الوالدين والأقربين من غير ذكر ما يدل على الحاجة ، وذكر بقية الأصناف مع ذكر بقية الأوصاف الدالة على الحاجة ،لأن الوالدين والأقربين يجب رعايتهم والإحسان إليهم ، وإن لم تكن فيهم حاجة شديدة ، فإن كانوا في حاجة شديدة فالإنفاق ألزم . ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك "{[269]} ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"من أراد منكم أن يبارك له في رزقه ، وينسأ له في أجله فليصل رحمه "{[270]} . والبر بذي الرحم مطلوب في القطيعة أشد منه عند المودة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح "{[271]} وقال صلى الله عليه وسلم:"ليس الواصل بالمكافئ ، وإنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة "{[272]} .
أما بقية الأصناف فإن العطاء فيها أساس الحاجة ، فاليتامى يعطون لاحتياجهم إن تركهم آباؤهم من غير مال . والمسكين:هو الفقير الذي أسكنته الحاجة ، أو أسكنه المرض أو السن وجعله في عوز . وابن السبيل:المسافر الذي لا مأوى له ، وقد انقطع عن ماله إن كان له مال ، وأولئك يعطون ما يسد حاجتهم ، وينقع غلتهم .
[ و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم] ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لبيان فضل عمل الخير ، والحث عليه ، لأنها تدل على فضل ذلك العمل وتدفع إلى الرغبة فيه ، إذ إن الله سبحانه وتعالى يعلمه ، وإحساس المؤمن التقي بأن الله يرى عمله في الخير حين يعمله ، وأنه يبصره وهويقدم عليه ، يشجعه على الاستمرار عليه ، لأنه إذا كانت رؤية أي عظيم من الناس لعمل خير يعمله الإنسان يحمله على الاستمرار فكيف إذا شعر المؤمن الذي يحس بعظمة خالق الكون بما فيه ومن فيه ؟ ثم إنه فوق ذلك ينال جزاءين مع ذلك ، أولهما:رضاه:وهو وحده جزاء ليس فوقه جزاء ، ولذلك قال سبحانه بعد بيان ثوابه في الآخرة:[ و رضوان من الله أكبر . . .72] ( التوبة ) . وثانيهما:النعيم المقيم يوم القيامة جزاء وفاقا لما قاموا من عمل صالح علمه رب العالمين وقت وقوعه ، وحين أدائه .