أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ( 214 )
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن الناس جميعا قد فطروا على فطرة واحدة ، وأن من هذا الاتحاد كان الافتراق والاختلاف ، ولقد ألهم الله كل نفس فجورها وتقواها ، وخلق الناس مستعدين للخير وللشر ، وللطاعة وللعصيان ، فكان منهم من غلبت عليه شقوته فاتجه نحو الشر ، ومنهم من عمته رحمة الله فاهتدى إلى الخير ، فكان من الناس الأخيار والأشرار ، وكان هذا من مقتضى الاستعداد للأمرين بمقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها وكانوا فيها على سواء .
و لا شك أن العاقبة للخير ؛ لأن الله هو الذي أمر به ، فإذا كان الناس فيهم الفجار والأبرار ، وأن في كل نفس امرئ استعدادا للفجور والتقوى ، فالله سبحانه قد دعا للخير ، وحث عليه ، وهو غالب على أمره ، وهو لابد ناصر للخير ، هازم للشر ، والعاقبة للمتقين ، ولكن النصر يكون على مقتضى تدبير محكم ، وصبر على البلاء ، وعدم استنامة إلى الرخاء .
فلا ينتصر الخير على الشر إلا بشدائد ومكاره تنزل بالأخيار ويتغلبون عليها بعد مغالبتها ، ومغالبة الأشرار معها ، ولذلك أردف الله سبحانه وتعالى الآية الدالة على اتفاق الناس واختلافهم ، بالآيات الدالة على الشدائد النازلة بالأخيار وأتباع النبيين ، فقال سبحانه:[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة] . . إلخ .
في هذه الآيات إذن يبين الله سبحانه وتعالى ما ينزل بالأخيار في سبيل الاستمساك بالحق والدفاع عنه ، وكيف يغالبون المحن التي تنزل بهم ، والأعداء الذين يحيطون بدولتهم ، ولقد وصف سبحانه وتعالى أولا البلاء في الداخل والخارج ، ثم وصف علاجه في الداخل بالبر والإنفاق ثم وصف علاجه في الخارجبالمقاومة وحمل السيف عند الاضطرار .
[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا] في هذه الجملة السامية بين الله سبحانه وتعالى أن طريق الجنة محفوف بالشدائد ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات "{[265]} وأن نعيم الجنة مرتقى عظيم ، لا يرتفع إليه إلا المجاهدون ، وأنها كلما عظمت الشدة وطالت المدة كان الخير أعظم ، ومعه رضوان الله وهو أكبر ، وأن البلاء منوع مختلف ، فهو بالبأساء وهي الشدائد والمكاره التي تكون خارج الجسم ، كحرب ضروس ، أو خطر داهم ، والبلاء قد يكون بالضراء ، وهي الآلام والشدائد التي تحل بالجسم ، كجراح شديدة ، أو أمراض ممضة ، أو آلام نفسية مزعجة ، وإن هذه الآلام قد تزعجهم وتشتد عليهم ، وتصير كالزلزال تهز نفوسهم هزا عنيفا ، كما يهز الزلزال أديم الأرض ، وإذا كان زلزال الأرض يهزها حتى يلقي ما عليها من قصور مشيدة ، فزلزال المؤمنين لا يقلب أنفسهم ، ولا ينكس ما في صدورهم ، بل يصقلها وينفض عنها ما عساه يعلق بها من درن .
و لقد فسر العلماء البأساء – بالشدة من خارج الجسم ، والضراء بما يكون داخلها كما نوهنا – و هي واضحة في الآحاد ، و قد تكون البأساء والضراء بالنسبة للمجموع ، فالبأساء التي تنال المجموع هي مهاجمة الأعداء ، اعتداؤهم وتوالي إيذائهم ، وعدم تركهم أهل الحق في قرار اطمئنان ، والضراء في المجموع هي ما يكون من فقر ومرض ، وما يتخللصفوف المؤمنين من منافقين يرجفون بينهم بالأقوال الكاذبة ، ويخذلون ضعاف الإيمان عند لقاء الأعداء ، ثم ما يكون من نقص في الأموال والأنفس والثمرات كما قال سبحانه وتعالى:[ و لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين 155] ( البقرة ) .
و "أم "في قوله تعالى:[ أم حسبتم] قد اختلف العلماء بشأنها من حيث التخريج اللفظي بمقتضى الأحوال التي تستعمل فيها "أم"، فقال بعضهم:إنها للاستفهامالمجرد ، وهذا هوما قاله الزجاج ، و جوزه الزمخشري ، والمعنى على ذلك التخريج واضح ، ويكون من قبل الاستفهام الإنكاري بمعنى إنكار النهي ، أي لا تحسبوا أنكم تدخلون الجنة [ ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم] أي لم تأتكم حال كحال الذين مضوا من قبلكم إذ مستهم أي أصابتهم البأساء والضراء ، و التعبير بمستهم للإشارةإلى أنها نالتهم بالأذى أحسوا به ، والآلام نالت حسهم ، ولكن لم تنل قلوبهم .
و قال بعضهم:إن "أم"هي "أم المتصلة"، وكأن في الكلام محذوفا دل عليه لازم قوله تعالى:[ كان الناس أمة واحدة . . .213] ( البقرة ) وما قبلها ، وكأن تقدير القول هكذا:أفرضيتم بالحق تنصرونه ، وتدفعون بغي الباغين عليه متحملين الشدائد والمكاره ، "أم"حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء . . . وبهذا تكون "أم "متصلة ، دالة على المعادلة بين حالين ، والموازنة بين أمرين ، وقد قال سبويه في الكتاب:إن"أم "المتصلة تكون دائما دالة على المعادلة والتسوية ، وإن كان التعادل غير مذكور ، كان مقدرا في القول مطويا في ثناياه .
و قال بعضهم إن "أم "هي أم المنقطعة الدالة على الإضراب ، وقد قال البصريون:إن أم المنقطعة تدل على الإضراب والاستفهام معا ، وكأن تقدير القول:لقد نزلت بكم الشدائد من أذى شديد في مكة وأنتم مستضعفون ، ومن حرب وبلاء وهزيمة أحيانا وأنتم بالمدينة ، ونزعت العرب كلها عن قوس واحدة في غزوة الأحزاب ، لتقتلع مدينة الله من أرضه ، فعليكم أن تصبروا . . [ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214] ( البقرة ) .
و "لما "في هذا الكلام الكريم تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي كما قال الزمخشري ، والمعنى:لم ينزل بكم مثل حال الذين خلوا من قبلكم وقد ينزل أو سينزل ، وإن نزل فاصبروا واعلموا أن الله مع الصابرين .
و الزلزلة:شدة التحريك ، وهي تكون في الأشياء وفي الأشخاص ، وفي الأحوال ، فيقال زلزلت الأرض إذا تحركت واضطربت ، وزلزلوا أي خوفوا . وقال الزجاج:أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه ، فإذا قلت زلزلته فمعناه كررت زلله .
و المعنى في الجملة أن أهل الحق دائما معنون بظلم الظالمين ، وتضييق الأشرار عليهم ، ودس الأشرار ونفاق المنافقين ، ودعاة التردد والهزيمة ، وهم لهذا في بأساء وضراء ، ولقد نزل ذلك بالذين خلوا من قبل ، فحياة الأنبياء كانت كلها امتحانا واختبارا ، وأن على أصحاب محمد أن يعلموا أنه نازل بهم ما نزل بالسابقين من بأساء وضراء وشدائد تزلزل النفوس وتضطرب لها القلوب بين الجنوب ، وأن ذلك طريق الجنة . ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ، ألا إن عمل النار سهل بسهوة "{[266]} .
و إن تلك الشدائد كانت تبلغ أقصاها ، حتى إذا وصلت القلوب إلى حال تقارب اليأس من الفرج ، إذ تغمرها الشدائد غمرا ، حتى تكون في شبه ظلماء لولا نور القلوب ، جاء نصر الله ، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى:
[ حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب] أي أن الشدائد كانت تنزل بالماضين من أنصار الحق والدعاة إليه ، ويطول زمنها ، ويتطاول فيها أهل الباطل ، حتى تصير النفوس في حال تريد النصر القريب .
و ليس معنى ذلك أن الهلع يستولي عليهم ، أو أن اليأس يملك قلوبهم ، فإن المؤمن لا ييئس من روح الله ، إنما معناه أنهم تنزل الشديدة فيحتملونها ويألفونها ثم تنزل الأخرى التي تكون أشد قسوة ، فيروضون نفوسهم على احتمالها مستعذبين العذاب في سبيل الحق ، وهكذا تترادف عليهم الشدائد ، وتتوالى عليهم المحن حتى تصل إلى أقصى ما تحتمله النفوس الآدمية ، و تبلغ حد الطاقة البشرية ، عندئذ يطلب الرسول والذين آمنوا معه النصر . وقدم الرسول في هذا المقام للدلالة على أمرين:أولهما:أن الشدة قد بلغت منتهاها بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم سارع بطلب النصر من رب العالمين ، والثاني:أن رأفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأتباعه تجعله يسارع بطلب نصر الله ، رحمة بهم ، وإشفاقا عليهم .
و عند بلوغ الشدة هذا الحد يكون ابتداء الفرج ، ولذا قال سبحانه:[ ألا إن نصر الله قريب] أي الله سبحانه وتعالى يبشرهم في هذه الحال بأن النفوس قد انتهى اختبارها ، وبدا جوهرها ، وأن النصر لا محالة آت وهو قريب ، فهذه الجملة الكريمة من كلام الله تعالى لهم . وقد قال بعض العلماء:إن هذه الجملة يصح أن تكون من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ، أي أنهم لفرط إيمانهم بحسن العقبى ، ورجائهم في نصر ربهم ، وإيمانهم بأن الحق منصور ، يحسون في الحال التي يطلبون فيها النصر بأن النصر منهم قريب ، فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد طلب النصر ويستمعون إليه مصدقين كأنهم القائلون:[ ألا إن نصر الله قريب] والتعبير على هذا الشكل يدل على توكيد الخبر بالنصر ، من جملة وجوه ، ففيه التعبير بالجملة الاسمية في مقام الفعلية فلم يقل ستنصرون ، والتعبير بالجملة الاسمية دليل على التوكيد ، و فيه أداة الاستفتاح ، وفيه "إن "الدالة على التوكيد"وفيه إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء ، [ و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40] ( الحج ) .
و الرسول في الآية الكريمة للجنس ، أي أن هذه الحال هي حال عامة تعرض لكل رسول من الرسل في قومه إذ يدعوه إلى الحق ، وإن قصص القرآن عن النبيين ينبئ عن ذلك ، فموسى عليه السلام آذاه وأصحابه فرعون حتى قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وصلبهم في جذوع النخل ، وعيسى عليه السلام آذوه هو ومعه الحواريون ، ومن قبل إبراهيم ولوط ونوح ، وهكذا أهل الحق لا يصلون إلى الغاية الفاضلة إلا بعد أن يقطعوا كل ما يلقيه في طريقهم أهل الباطل من أحجار تدعثره ، وأشواك تعوق السالك فيه .
و لقد قال العلماء:إن هذه الآية نزلت بعد أن أصاب المسلمين القرح في أحد ، فكانت هذه الآية للتسلية لهم ، ولكن الذي نزل في غزوة أحد هو قوله:[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين 142]( آل عمران ) ،بدليل ما قبلها ، وهو قوله تعالى:[ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس . . .140]( آل عمران ) ولذلك يرجح أكثر العلماء الذين عنوا ببيان أسباب النزول أن هذه الآية نزلت عند غزوة الأحزاب ، حين أصاب المسلمين ما أصابهم من جهد ومشقة ، وهم يحفرون الخندق ، ثم أصابهم من تهديد في الأموال والأنفس عندما جاء أولئك الأحزاب مجتمعين ،كما قال الله تعالى:[ وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله ظنونا 10] ( الأحزاب ) .
و مهما يكن من سبب لنزول هذه الآية الكريمة فإنها تدل على أن أهل الحق في مغالبة دائمة ، وأنهم لا ينتقلون من شدة إلا إلى أعلى منها حتى يفوزوا ، فإن الشيطان من يوم أن وسوس لآدم وحواء وأخرجهما من الجنة ، وأبناؤهما في بلاء:تستغوي الشهوات جموعهم ، فيندفعون فيها مجترعين من عسلها الوبىء ، ثم يلغون في الشر ويكلبون على أهل الخير ، فإذا تقدم دعاة الخير يدعونهم بعد أن يتبين الرشد من الغي ببعث النبيين مبشرين ومنذرين ، عادوهم وناوءوهم وأصابوهم ، واعتقدوا أن ما يدعون إليه فيه ذهاب طغيانهم ، وقدع شهواتهم ، والحد من أهوائهم ، وحاولوا افتراسهم كالوحوش الأوابد عندما تحس بما يمنعها من الافتراس ، ويكبحها عن الأذى .
و إذا كان أهل الحق يصابون بالضراء وهي الأذى الذي يكون في داخل جماعتهم كما قررنا ، والبأساء وهي الأذى الذي يأتي من خارجهم ، فقد وجب عليهم أن يدرعوا ، ويعملوا صابرين على دفع الأذى في الداخل والخارج ، ودفع الأذى في الداخل بالتعاون والتكافل الاجتماعي ، ودفع الأذى الخارجي بأخذ الأهبة للقتال ، والتعاون أيضا ، فإن التكافل الاجتماعي هو العدة لدفع أذى الداخل والخارج معا .