{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214} .
الآية متصلة بما قبلها فقد أمر الله تعالى بالوفاق والسلام ، وبين سبب التنازع والخصام ، وأرشد إلى ما فطر عليه البشر من حاجة بعضهم إلى التعاون مع بعض عند ما كثروا واجتمعوا وكثرت مطالبهم وتعددت رغائبهم ، ومن إفضاء ذلك إلى التنازع والتعادي ، ومن حاجتهم إلى نظام جامع وشرع يحدد الحقوق ويهدي القلوب ، لا مجال فيه للنزاع والاختلاف ، لوجوب أخذه بالتسليم لما معه أو لما فيه من البينات على أنه من عند الله ، وذكر إحسان الله تعالى إليهم إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم في الاختلاف .ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الكتاب نفسه وتحويلهم الدواء داء ، واتخاذهم الرابطة الجامعة آلة مفرقة ، ثم هداية الله تعالى أهل الإيمان الصحيح لما وقع الاختلاف فيه من الحق برجوعهم إلى الأصل وهو الكتاب ، وتحكيمه في كل خلاف ، وقبول حكمه في كل نزاع ، والاعتماد في فهمه على ما يؤخذ من جملته ، وما علم علما صحيحا من سنة من جاء به ، ومن صدقوه واتبعوه قبل الخلاف .
بين الله تعالى هذه الأطوار في البشر فأنار لنا الطريق التي اهتدت فيها الأمم بعد ضلال .ثم ضلت بعد هداية ، لنكون على بصيرة فيما نعمله للخروج من الخلاف بعد وقوعه ، ولكن الذي يحاول الخروج من الخلاف يكون عرضة لبغي المختلفين وإيذائهم ، وهكذا أهل الضلالة يبغون على أهل الهداية وإن كان هؤلاء يريدون خيرهم ، سواء كان ما يحاولون هدايتهم فيه هو الضلال في طريق الفطرة والعقل ، أم الضلال في تأويل الكتاب والتصرف في الشرع ، ولذلك قفى على ذلك البيان كله بتمثيل حال الأولين الذين سلكوا سبيل الهداية في أنفسهم وتصدوا لهداية الناس وإرشادهم إلى السلم والوفاق فقال:
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم} الخ الخطاب موجه إلى الذين هداهم الله تعالى إلى السلم والخروج من ظلمه الخلاف إلى نور الكتاب الذي أنزل لإزالته في زمن النزول وفي كل زمن يأتي بعده .وتوجيهه أولا وبالذات إلى أهل الصدر الأول من المسلمين الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أكبر عبرة وموعضة لمن يأتي بعدهم ويحسبون أنهم بمجرد الانتماء إلى الإسلام يكونون أهلا لدخول الجنة ، جاهلين سنة الله تعالى في أهل الهدى منذ خلقتهم ، وهي تحمل الشدائد والمصائب والضرر والإيذاء في طريق الحق ، وهداية الخلق .وعجيب من أمة ينطق كتابها بالآيات البينات على أن سنة الله في خلقه واحدة لا تحويل لها ولا تبديل ، ويحثها دائما على الاعتبار بها والسير في الأرض لمعرفة آثارها في الأمم البائدة والأمم الحاضرة ، ثم هم يحولون هذه السنة عنهم ، ويفشو فيهم الإنكار على من يعظهم ، بما حكى الله تعالى عن حال تلك الأمم التي كفرت بنعمة الله تعالى عليها بالسلم والهداية قائلين إنه يقيس المسلمين على الكافرين! !
{ أم} ههنا هي الواقعة في طريق الاستفهام وهي تشعر بمحذوف دل عليه الكلام في وصف الذين خلوا من قبلنا وما نالوا من البأساء والضراء ، كأنه يقول قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا .أفتصبرون مثلهم على المكاره ، وتثبتون ثباتهم على الشدائد ؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله تعالى من غير أن تفتنوا في سبيل الحق فتصبروا على ألم الفتنة وتؤذوا في الله فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله تعالى في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان ؟ قرر الأستاذ معنى الآية على هذا الوجه وقال إنه معنى ظاهر من الآية يسبق إلى ذهن كل قارئ ، وإن لم يستطع كل أحد التعبير عنه وإذا جعلت{ أم} بمعنى الإضراب والاستفهام معا كما قال المفسر ( الجلال ) بطل هذا المعنى الذي يملك النفس ويؤثر في الوجدان .
قيل إن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين وشجوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته .وقيل إنها نزلت في غزوة الأحزاب إذ اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين وقطع دابرهم ، وأصاب المؤمنين يومئذ ما أصابهم من الجهد والشدة والجوع والحاجة وضروب الأذى ، وإذ انتفض المنافقون على المؤمنين الصادقين ، وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض{ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} ( السجدة:12 )وإذ جاءهم الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم ، وإذ رأى المؤمنون الصادقون الأحزاب متحزبة عليهم فقالوا على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم{ هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله:وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} ( الأحزاب:21 ) .
أمثال هؤلاء يخاطبهم الله تعالى بقوله:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل كمثل الذين خلوا من قبلكم} أي وإلى الآن لم يصبكم ما أصاب الذين سبقوكم بالإيمان والهدى والدعوة إلى الحق من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، فالمراد بالمثل الوصف العظيم والحالة التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل .أي لم تكن لكم هذه الحال الشديدة إلى الآن .وهذا النفي المستغرق مما يوجه الأذهان إلى طلب العلم بما أصاب أولئك الأقوام ، ولذلك وصله بالبيان فقال:{ مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله} البأساء الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه كأخذ المال والإخراج من الديار وتهديد الأمن ومقاومة الدعوة ، وفسره الجلال بالمرض وهو بعضه ، وأما الزلزال فهو الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه عنه ، وهذا الحرف فيه لفظ زل مكررا ومعناه زلق وانحرف ، فزلزله بمعنى هزه ودعه ليزله عما هو عليه ، أي أنهم وصلوا إلى درجة حدوث الاضطراب والإشراف على الزلل في مجموعتهم كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب{ وزلزلوا زلزالا شديدا} ( الأحزاب:11 ) والآية التي نفسرها تصرح بأن بعض السابقين كانوا أشد زلزالا من هذا الذي وقع للمسلمين في يوم الأحزاب .
ولعل الغاية التي وصلوا إليها ولم يصل إليها سلفنا هي قوله تعالى:{ حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} أي حتى وصلوا إلى غاية من الشدائد والأهوال لم يروا فيها منفذا لسبب الفرز لأن قوة أعداء الحق أحاطت بهم من كل جانب ودنت حتى أخذت بأكظامهم{[157]} ، فاعتقدوا أن وقت العناية الإلهية والنصر الذي وعد الله به من ينصر الحق قد حان وقته أو أبطأ فاستعجلوه بقولهم:متى نصر الله ؟ فأجابهم تعالى:{ ألا إن نصر الله قريب} بأن نصرهم وكف عنهم شر أهل البغي وأيد دعوتهم وجعل كلمتهم العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وكان الله قويا عزيزا ومثل هذه بل أشد قوله تعالى:{ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء} ( يوسف:110 ) .
فالرسول هنا للجنس وقد ذكرت هذه الغاية في الشدة بصيغة المضارع تصويرا لها كأنها حاضرة ، ليتمثل المخاطب هولها وشدتها فيخفف عنده ما يجده مما هو دونها .وما من شدة تصيب الأمم إلا وهي دون الشدة التي يستعجل بها رسل الله تعالى نصر الله استبطاء له وهو أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم اتكالا عليه وتسليما له .ولعمري إن المسلمين لم يصلوا في تلك الشدة التي حملت عليها الآية إلى تلك النهاية التي قال فيها أولئك الرسل ما قالوا ولقد قتل بعض النبيين ضروبا من القتل حتى ورد أن منهم من نشر بالمنشار حيا وناهيك بأصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار{ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} ( البروج:8 ) .
وحاصل معنى الآية لوم المؤمنين على ذلك الحسبان وبيان أن ما كانوا فيه من الشدة والألم في وقعة الأحزاب أو وقعة أحد إن صح أن الآية نزلت في ذلك الوقت أو في عامة أحوالهم قبل فتح مكة إذ كانوا يألمون من منازعة المشركين واليهود والمنافقين ويقاسون من جحودهم وكيدهم ما يقاسونكل ذلك قليل في جنب ما قاسى غيرهم ممن سبقهم بالإيمان والهدى إذ كان استعداد البشر أضعف وقسوتهم أشد وعنادهم أقوى .
جاء في معنى هذه الآية آيات أقربها منها لفظا ومعنى قوله تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ( آل عمران:12 ) وهذه نزلت في غزوة أحد لا محالة وأما قوله تعالى:{ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله وليجة والله خبير بما تعلمون} ( التوبة:16 ) فقد قيل إنه خطاب المؤمنين وقيل للمنافقين .ومن خطاب المؤمنين في مثل هذا المقام قوله في سورة ألم العنكبوت:{ آلم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} ( العنكبوت:1-3 ) إلى قوله:{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} ( العنكبوت:10 ) .
فهذه الآيات وأمثالها تؤيد الآية التي نفسرها في ابتلاء الله المؤمنين الصادقين الداعين إلى الحق ، ولكنك تجد أكثر المسلمين الذين تتلى عليهم دائما في غفلة عنها ، فمن لم يغفل عن تصور المعنى في ذهنه يغفل عن انطباقه على الواقع ، ولذلك تجد الكثيرين منهم يذهبون إلى أن من يؤذى في سبيل الحق بالقول أو الفعل ، كان وقوع الأذى عليه دليل على أنه مبطل لا يطلب الحق! ! فما أجهلهم بكتاب الله ؟ وما أبعدعم عن العلم بسنن لله ؟ وما أغفلهم عن تأويلهما في خلق الله ؟
اتخذ المسلمون هذا القرآن مهجورا إلا ما يتغنون به من بعض سوره في المحافل الجامعة ، ففقدوا روح الدين ، وتبع الروح الجسمان إلا قليلا من الرسوم الماثلة ، في جانب بروج البدع المشيدة ، وإنما أبقى على تلك الرسوم تمسك العوام بها ، فلولاهم لما بالى الأمراء والرؤساء الذين لا قوام لعظمتهم إلا خضوع العامة لهم ، لذلك جعلوا الدين رابطة سياسية وآلة لإخضاع العامة ، ولذلك يحاربون من يدعو الأمة إلى الكتاب العزيز ، ويستعينون عليه بعلماء الرسوم الذين يستمدون سلطتهم ورزقهم وجاههم منهم ، لئلا تتوجه نفوس الجمهور إلى الكتاب ، فيعرو رياستهم الزلزال والاضطراب .
هذا هو الحجاب بين الأمة وبين الاعتبار بالقرآن والاهتداء بهديه .
المسلم العارف بتاريخ دينه يعرف قيمة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والمسلم العامي المقلد يعظمهم في خياله وشعوره ، أشد مما يعظمهم العارف في فكره وقلبه ، حتى أن الكثيرين أو الأكثرين من المسلمين يكادون يرفعونهم عن مرتبة البشر ، ويكاد تعظيمهم إياهم يشبه العبادة ، ولكن ما بال هؤلاء وأولئك لا يعتبرون بما خاطبهم الله تعالى به في مثل هذه الآية ، ولا يتأملون كيف عاتبهم الله تعالى هذا العتاب الشديد على ظنهم وحسبانهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضراء واحتمال الشدائد في سبيله ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان ، حتى استحقوا الجنة ؟
يقول الأستاذ الإمام:إن الآية عتاب لهم ، وقال غيره من المفسرين إنها إنكار عليهم ، هذا القول أشد من قوله .فكيف لا ينكر مسلم على نفسه مثل هذا وهو يعلم أنه دون الصحابة الكرام إيمانا وإسلاما دعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيله ؟ لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراه من أمثاله الذين يقولون آمنا بالله ، فإذا أوذي أحدهم في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ، وآثر ما عند الناس على ما عند الله ؟ بل لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراهم لا هم لهم إلا زينة هذه الحياة الدنيا والاستكثار من المال ولو من غير حله ، والانبساط في الأرض ولو بالبغي في الأرض والاعتداء على حقوق الجيران وغيرهم ؟
أم حسبت أن هؤلاء الذين يغشون أنفسهم ويغشون الناس بدعواهم الإيمان ، وغرورهم بالانتساب إلى الإسلام ، كانوا بدعا من الناس بجهلهم وأمانيهم ؟ كلا إن هذه كانت حال كل أمة طال عليها الأمد بعد زمن البعثة ، فقست من أفرادها القلوب ، وفسقوا عن أمر ربهم فلم يزنوا إيمانهم ولا إسلامهم بالميزان الذي وضعه الله تعالى في كتابه ليميز به الراجح والطائش وبه حكم على أصحاب النبيين وأتباعهم بما قرأت في الآية الكريمة وما ذكرنا في تفسيرها مما في معناها .
وإنما البدع الغريب ، والأمر العجيب ، الذي لم يعرف له نظير في أمة من الأمم ، هو ما نراه في هذا العصر من تصدي أناس لدعوى نصر الدين والزعامة فيه وحفظه على أهله ، وهم لم يقرؤوا كتابه ، ولو قرأوه لما فهموه ، ولم يتلقوا سننه ولو سمعوها لما وعوها ، ولم ينظروا في عقائده ولو نظروا فيها لما عقلوها ، ولم يعرفوا معظم أحكامه وما يعرفونه منها لا يعملون به .
وأعجب من هذا وأغرب أنهم بلغوا من الوقاحة والتهجم أن صاروا يعارضون حملة القرآن ، وأنصار السنة ، وعرفاء الشريعة ، وحجج العقائد ، وحكماء الأحكام ، ويجادلونهم في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وقد حلوا رابطة الدين ودعوا إلى رابطة أخرى يسمونها الوطنية يفرقون بها بين المؤمنينوما جرأهم على ذلك كله إلا جهل العامة وقلة الذين يميزون بين العلماء العاملين والأدعياء الجاهلين ، ولو كان هؤلاء على شيء من الإيمان لاستحيوا من الله تعالى أن يدعوا هذه الدعاوى التي يكذبهم بها كتابه كما تكذبهم سيرة السابقين الأولين ، لكنهم لا هم لهم إلا العامة التي يبتغون عندها الرزق والاستعلاء في الأرض ، وهم في مأمن من فهمها معنى الإيمان وصفات أهله ، لأنهم يحولون بينها وبين كل من يوجه وجهها إلى كتاب الله تعالى الهادي إلى ذلك .
جعل الله للمؤمنين آيات ووصفهم في كتابه بصفات غيرها المحرفون واستبدلوا بها آيات الغش وصفات المخادعة التي يفتنون بها العامة .أكبر آيات الإيمان وأظهرها الاهتداء بكتاب الله تعالى والدعوة إليه وإيثاره على كل ما يخالفه ، واحتمال البأساء والضراء في سبيل الحق الذي يهدي إليه والخير الذي يحض عليه ، ويدخل في ذلك بذل المال والنفس ، فمن بخل بما آتاه الله من مال وقوة على تأييد كلمة الله ، فلا وزن لإيمانه في كتاب الله .
فيا أيها المسلم المقلد لوالديه ومعاشريه وأقرانه ، الذي يحسب أنه من أهل الجنة لأنه ولد وربي بين المسلمين ، ورضي ببعض ما هم عليه من رسوم الدين ، أو اتكالا على شفاعة الأولين ، اقرأ أو اسمع وتأمل ما عاتب الله تعالى به أفضل سلفك الصالحين ، وما ذكره عمن سبقهم من أتباع النبيين .
ويا أيها العلماء بالرسوم والعاكفون على قراءة كتب العلوم ، ليس بأمانيكم ولا أماني الكاتبين فقد وضع كتاب الله الميزان للصادقين والمنافقين ، فعليكم أن تتذكروا وتذكروا به إخوانكم المسلمين ، ولا يصدنكم عن آيات الله والاهتداء بكتاب الله أنكم فضلتم الناس بقراءة مطولات الكتب العربية ، وصرف السنين الطوال في فهم الأحكام الفقهية ، والاكتفاء من علم الإيمان بمثل السنوسية والنسفية فإن ينبوع الإيمان كتب الله تعالى فأحصوا ما فيه من الشعب والآيات على الإيمان{ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} ( الرحمن:9 ) .
ويا أيها الأمراء والسلاطين ، الذين انتحلتم لأنفسكم الرياسة في هذا الدين ، وإفاضة السلطة الدينية على العلماء والحاكمين ، اعلموا أنكم مخاطبون كغيركم بهذه الآيات ، بل هي موجهة إلى غيركم بالتبع وإليكم أولا وبالذات ، لأنكم سلبتم الأمة الاستطاعة على العمل للملة ، ومنكم من سلبها أيضا حرية القول والدعوة ، فعليكم أن تخفضوا من هذه الكبرياء ، وأن تتحملوا في سبيل الحق البأساء والضراء ، وأن تبذلوا في تأييد كلمة الله قناطير الذهب التي تخزنون ، وهذه المزارع والدساكر{[158]} التي تتأثلون{[159]} ، فإن ما تستدلون به على أصل سلطتكم من القرآن ، مقيد بكونكم من أهل الإيمان ، وهذه آيات المؤمنين ، وما أعلم الله به أهل الإيمان الصادقين ، بل عليكم بعد إقامة شعب الإيمان في أنفسكم ، أن تقيموها في أنفس رعيتكم وتكونوا قدوة لعالمهم وعاملهم ، وغنيهم وفقيرهم ، لتكونوا أئمة هدى ونور ، لا أئمة ضلالة وفجور ، وإلا كان عليكم إثمكم ، وإثم جميع الأمم التي منيت بكم .
وجملة القول إنه يجب على كل مكلف أن يتحقق بصفات الإيمان التي جاء بها الكتاب العزيز ، ويعلم أن للإيمان عليه حقوقا عامة وواجبات خاصة ، هن آيات الإيمان وثمراته في الأنفس والأعمال ، وبهن يؤدي إلى غايته من سعادة الدارين ، ولم يسلب الله هذه الأمة تلك النعم التي أنعم بها على سلفها بقيامهم بحقوق الإيمان إلا بعد التفريط فيها .ثم إنهم ليمنون أنفسهم بالجنة ، بدلا عما فاتهم من السيادة والعزة ، غافلين عن الآيات البينات التي تفرض عليهم من الأعمال لسعادة الآخرة أكثر مما تفرضه عليهم لسعادة الدنيا ، وإن في كل آية منها ما يكفي لاستئصال جرائم الغرور والأماني فما بالك بمجموعها ، فعلى المسلم المذعن أن يشغله تطبيقها على نفسه ، عن اشتغاله بعيوب غيره ، وأن يتعاون مع أهلها على البر والتقوى ، ويهجر الراغبين عنها غرورا بزينة الحياة الدنيا .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن الجلال فسر{ أم} هنا ببل والهمزة فجعلها للاضطراب مع الاستفهام ، تبعا للبصريين ووفاقا لكثير من المفسرين وقال الأستاذ الإمام أن{ أم} تقع في أول الكلام فلا يصح فيها المعنى المشهور إذ لا معنى للاضطراب في أول القول وما استشهدوا به من الشعر لا يشهد لقولهم بل يصح على أن تكون{ أم} في الآية للاستفهام المجرد وهو ما قاله الزجاج .وقد فسر الآية بنحو ما تقدم وهو مبني على جعل{ أم} للمعادلة وحذف ما عطف عيله ، وقال في المغني إن الزمخشري هو الذي أجاز هذا وحده ، ثم قال وجوز ذلك الواحدي أيضا وعزا مجيئها للاستفهام المجرد إلى أبي عبيدة .ثم قال:ونقل ابن الشجري عن جميع البصريين أنها أبدا بمعنى بل والهمزة جميعا ، وأن الكوفيين خالفوهم في ذلك ، والذي يظهر لي قولهم إذ المعنى في نحو{ أم جعلوا لله شركاء} ( الرعد:16 ) ليس على الاستفهام .
وذكر سيبويه في الكتاب أن{ أم} المتصلة لا تخرج عن معنى المعادلة والتسوية وأن{ أم} المنفصلة تجيء بعد الاستفهام كما تجيء بعد الخبر وبعد أن مثل لهما قال:وبمنزله أم هنا قوله عز وجل:{ ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه} ( السجدة:1-2 ) فجاء هذا الكلام على كلام العرب ليعرفوا ضلالتهمإلى أن قال{ أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} ( الزخرف:16 ) فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن الله عز وجل لم يتخذ ولدا ولكنه جاء على حرف الاستفهام ليبصروا ضلالتهم:اه .
وفسر الجلال{ لما} بلم وهو غير صحيح ولم يقل به أحد بل قال سيبويه إن لما لتأكيد النفي في مقابلة الإثبات المؤكد ، كأن يقول أحد إن فلانا جاء فتقول لما يجيء ، وهذا قد يصح في الآية لأن المقام مقام تأكيد أنه لاوجه لحسبانهم أن يدخلوا الجنة ولم يأتهم بعد ما أصاب من قبلهم ، وقال الزمخشري إن لما للنفي مع توقع الحصول ، ولم للنفي المنقطع ، وهو الذي يتجه في الآية وأمثالها .وفي المغني أن{ لما} تفارق{ لم} في خمسة أمور فتراجع هناك .