قوله تعالى: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ( كتب ) فعل مبني للمجهول .( القتال ) نائب فاعل .( وهو كره لكم ) الواو للحال والجملة الاسمية من المبتدأ والخبر في محل نصب حال .
وفي هذه الآية فرض القتال على هذه الأمة ؛لما في القتال من ترسيخ لقواعد الدين والشريعة وتثبيت لأسس الحق والعدل والأخلاق .ولما في القتال كذلك من درء لأسباب الشر والأشرار وتبديد لمعالم الفساد والمنكر وإذهاب لدعاة الجريمة والباطل من وجه الأرض .ولولا القتال الذي شرعه الإسلام لاستعلى المبطلون والأشرار ونفخوا بكيرهم في الأرض لينفثوا معالم الفساد بكل صوره وأشكاله ولظلت دعوة الحق واليقين عاجزة عن أب انتشار أو بلوغ للأسماع والأذهان .
أما الجهاد من حيث حكمه في الشريعة فهو فرض على الكفاية إذا اضطلع به فريق من المسلمين سقطت فرضيته عن الباقين من المكلفين في هذه الأمة ،وتظل فرضية الجهاد على الكفاية إلا أن يتجاوز العدو في عدوانه فيجوس خلال المسلمين ويحتل جزءا من ديارهم .وفي مثل هذه الحال يصبح القتال فرض عين ،أي تنشغل ذمة كل مسلم مكلف بعينه بفرضية القتال ،فلا تبرأ هذه الذمة من هذا الواجب إلا بتأدية القتال ،وذلك ما قام عليه إجماع المسلمين حول هذه القضية الهامة ،ولا يفرط المسلمون في هذا الواجب العظيم إلا وتحيط بهم غواشيالمهانة والذل ،وتأخذهم قوارع التهديد والعدوان من كل مكان ،تلك القوارع التي ما فتئت تتوالى على المسلمين فتذيقهم الويل والثبور والذل .
وقوله: ( وهو كره لكم ) أي أن الطباع تكره القتال ؛لما يفضي إليه من مخاطر الموت أو الجرح أو الخوف أو غير ذلك من مقتضيات الحروب .
وقوله: ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) عسى من الله في القرآن واجبة كما قيل .والمعنى المراد على وجه الخصوص في هذه الآية أن الناس عسى أن يكرهوا القتال ،لما فيه من كرب ومشقة واحتمالات الضرر الخاص ،ولكنه في النهاية سوف يفضي إلى خير كبير وهو النصر على أعداء الله وتحطيم شوكته والتمكين لهذه الأمة في الأرض لتصيح أمة قوية متمكنة .إلى غير ذلك من وجوه الأمن والاستقرار وتحصيل الخير والرزق والسعادة .وأما المعنى المراد على وجه العموم .أن المرء ربما كره شيئا لما يحسب أنه شر وأنه يؤول إلى نتيجة غير مرضية ،وذلك بناء على حسابات الإنسان وتقديراته القاصرة والتي يعوزها الكمال في المعرفة أو الكشف عما يبطنه الغيب من مجاهيل وأخباء .حتى إذا خاص المرء غمار ما كره وجد أنه الخير وأن ما كان يخشاه ويكرهه قد أفضى به إلى الخير والمنفعة .
قوله: ( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) عسى أن يرغب المرء في الدعة والقعود دون الجهاد إيثارا للراحة وعدم المشقة والعناء ،لكن ذلك سيودي به وبالآخرين إلى هاوية الذلة والاستعباد ،وإلى الخنوع للكافرين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر ،ويعلمون على تدميرهم والقضاء عليهم قضاء تاما .
وكذلك ربما رغب المرء في شيء ظنا أنه خير ،لكنه محسوب في علم الله سرا ،وأنه يقود إلى خسران وفشل لا يعلمهما من قبل إلا الله ،فليس للمرء في هذه القضايا إلا أن يستسلم لتقدير الله ومشيئته ،وأن يرضى بما جعله الله قدرا مقدورا .وإن ذلك ما كان صدفة أو عشوائية ولكنه معلوم مقدر محسوب .والإنسان مهما علم فإنه لا يتجاوز بعلمه نطاق المستطاع المحدود .وهو لا يبرحه الضعف والإحساس بالبساطة والهوان إلا أن يكون جاهلا مغرورا .فإن ظن أنه أكبر من حجمه ومقدوره فقد ظلم نفسه وغار بها في غياهب الضلالة والضياع ،وليس أصدق ولا أجمل ولا أكمل من العبارة الربانية الجلية القصيرة إذ يقول سبحانه: ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي يعلم ما يصلحكم وما خير لكم في دنياكم وأخراكم ،أما أنتم فلا تعلمون ذلك{[292]} .