)يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) ( البقرة:219 ) ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( البقرة:220 )
التفسير:
قوله تعالى:{يسألونك عن الخمر والميسر} أي يسألك الناس ،أو الصحابة رضي الله عنهم ،وسبب سؤالهم هو أن الإنسان العاقل إذا رأى ما يترتب على الخمر ،والميسر من المضار التي تخالف الفطرة فلا بد أن يكون عنده إشكال في ذلك ؛ولهذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمهما - لا عن معناهما - ؛لأن المعنى معلوم .
والسؤال إذا كان بمعنى طلب مال فإنه ينصب مفعولين ؛وإذا كان سؤال استفهام فإنه ينصب المفعول الأول ،ويتعدى للثاني ب«عن » كما في هذه الآية ،وكما في قوله تعالى:{يسألونك عن المحيض} [ البقرة: 222] ،وقوله تعالى:{يسألونك عن الساعة} [ الأعراف: 187]؛وربما يُستغنى عن الثاني بجملة استفهامية ،كما في السؤال بعده ؛والفرق بين الصيغتين - تعديه إلى جملة استفهامية ،وتعديه إلى المفعول الثاني بحرف الجر - أنه إذا عدّي إلى الثاني بصيغة الاستفهام صارت هذه الصيغة نفس لفظ السائل بعينها ؛وإذا تعدى ب«عن » فقد تكون هي لفظ السائل بعينه ،وقد تكون غير ذلك .
والمراد بالخمر كل ما أسكر على وجه اللذة ،والطرب .
وقد أنزل الله في الخمر أربع آيات: آية تبيحه - وهي قوله تعالى:{ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} [ النحل: 67] - ؛وآية تعرض بالتحريم - وهي هذه الآية - ؛وآية تمنعه في وقت دون آخر - وهي قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [ النساء: 43] - ؛وآية تمنعه دائماً مطلقاً - وهي آية المائدة التي نزلت في السنة الثامنة من الهجرة - ؛وهي قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ...} [ المائدة: 90] الآيات .
وقوله تعالى:{والميسر} المراد به القمار ؛وهو كل كسب عن طريق المخاطرة ،والمغالبة ؛وضابطه: أن يكون فيه بين غانم ،وغارم .
قوله تعالى:{قل} أي لمن سأل عن الخمر ،والميسر ؛{فيهما} خبر مقدم ؛والضمير عائد على الخمر ،والميسر ؛{إثم} أي عقوبة ؛أو كان سبباً للعقوبة ،كما قال تعالى:{ولا تعاونوا على الإثم والعدوانويقال: «فلان آثم » أي مستحق للعقوبة .
وفي قوله تعالى:{كبير} قراءة:{كثير}؛والفرق بينهما أن الكبر تعود إلى الكيفية ؛والكثرة تعود إلى الكمية ؛والمعنى أن فيهما إثماً كثيراً بحسب ما يتعامل بهما الإنسان ؛والإنسان المبتلى بذلك لا يكاد يقلع عنه ؛وهذا يستلزم تعدد الفعل منه ؛وتعدد الفعل يستلزم كثرة الإثم ؛أيضاً الإثم فيهما كبير - أي عظيم - ؛لأنهما يتضمنان مفاسد كثيرة في العقل ،والبدن ،والاجتماع ،والسلوك ؛وقد ذكر محمد رشيد رضا - رحمه الله - في هذا المكان أضراراً كثيرة جداً ؛من قرأ هذه الأضرار عرف كيف عبر الله عن ذلك بقوله تعالى:{إثم كبير} ،أو{إثم كثير}؛وهاتان القراءتان لا تتنافيان ؛لأنهما جمعتا وصفين مختلفين جهة ؛فيكون الإثم كثيراً باعتبار آحاده ؛كبيراً باعتبار كيفيته .
قوله تعالى:{ومنافع للناس}؛جمع منفعة ؛وهي من صيغة منتهى الجموع التي تدل على الكثرة ؛ففيهما منافع كثيرة عظيمة ؛فإن قلت: كيف قال الله عزّ وجلّ:{منافع للناس} بهذا الجمع الكثير ؟أليس هذا مما يستلزم أن يُقبل الناس عليهما ؛لأن الإثم ذكره مفرداً - وإن كان قد وصف بالكبر ،أو بالكثرة - ؛لكن المنافع ذكرت بالجمع ؟
فالجواب: أن يقال: إنه مع كثرة منافعهما فإن إثمهما أكبر ،وأعظم ؛لأنه لو كانت منفعة واحدة لم يستغرب كون الإثم أكبر ؛لكن حتى وإن تعددت المنافع ،وكثرت فإن الإثم أكبر ،وأعظم ؛وتأمل قوله تعالى:{منافع للناس}؛لأنها منافع مادية بحتة تصلح للناس من حيث هم أناس ؛وليست منافع ذات خير ينتفع بها المؤمنون .
قوله تعالى:{وإثمهما أكبر من نفعهما} يعني: ما يترتب عليهما من العقوبة أكبر من نفعهما ؛لأن العقوبة في الآخرة ؛وأما النفع ففي الدنيا ؛وعذاب الآخرة أشق ،وأبقى .
قوله تعالى:{ويسألونك ماذا ينفقون}؛هذا هو السؤال الثاني في الآية - أي أيّ شيء ينفقونه - ؛وفي إعرابها وجهان ؛الأول: أن{ماذا} مفعول مقدم ل{ينفقون}؛وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير ضمير المفعول في:{ينفقون}؛والثاني: أن «ما » اسم استفهام مبتدأ ،و «ذا » اسم موصول بمعنى «الذي » خبر ؛وجملة:{ينفقون} صلة الموصول ؛والعائد محذوف ؛والتقدير: ماذا ينفقونه .
قوله تعالى:{قل العفو} فيها قراءتان: النصب ،والرفع ؛فالرفع على تقدير «ما » اسمَ استفهام مبتدأ ؛و «ذا » اسمَ موصول خبراً ؛فيكون{العفو} خبراً لمبتدأ محذوف ؛والتقدير: هو العفو ؛وأما النصب فعلى تقدير{ماذا} مفعولاً مقدماً ؛و{العفو} منصوب بفعل محذوف ؛والتقدير: أنفقوا العفوَ ؛وإنما قلنا: الرفع ،والنصب مبني على إعراب الجملة التي قبلها ؛لأن الجواب مبني على السؤال ؛فهنا كلمة: «ما » هذه - الموصولية ،أو الاستفهامية - هي التي فُسِّرت بكلمة:{العفو}؛فإذا كانت تفسيراً لها كان لها حكمها في الإعراب ؛إن نصبت{ماذا} فانصِب{العفو}؛وإن رفعت{ماذا} فارفع{العفو} .
قوله تعالى:{كذلك يبين الله لكم الآيات}؛المشار إليه ما سبق من بيان حكم الخمر ،والميسر ،وبيان ما ينفق ؛أي: مثلَ ذلك البيان يبين الله ؛و «البيان » بمعنى الإظهار ؛يقال: بينته ،فتبين - أي ظهر - ؛و{الآيات} جمع آية ؛وهي العلامة المعينة لمعلومها ؛والمعنى: أن الله يبين لعباده الأحكام الشرعية بياناً واضحاً .
قوله تعالى:{لعلكم تتفكرون}؛«التفكر » إعمال الفكر للوصول إلى الغاية ؛و «لعل » للتعليل ؛واسمها: الكاف ؛وخبرها: جملة:{تتفكرون} .
/خ220